كرة القدم بين سيف الرحبي وسماء عيسى

18 يناير 2022
18 يناير 2022

يحدث أحيانا أن نكتشف نصوصا أدبية تُظهر جانبا من اهتمام كتّابها بما لم نكن نعتقد أنهم يولونه اهتمامهم، فنفرح بتلك النصوص المُغايرة التي تبدو أشبه باللُّقى الأدبية النادرة التي من شأنها أن تضيء جديدا في معرفتنا بهم، كأن نكتشف اهتمام أديبين عمانيين بارزين مثل سيف الرحبي وسماء عيسى بكرة القدم. وهو الأمر الذي من شأن القارئ أن يقف عنده طويلا؛ ليتأمل الشغف بالكرة وقد تحوّل إلى أدب لا يقل سحرا عن المستديرة في مستطيلها الأخضر. فالأدب يحيل حرارة اللعبة إلى وهج خاص لا يرتبط بالزمن اللحظي، بل يجعلها مشاعا حتى لأولئك الذين لا يحبون كرة القدم.

عثرتُ على مقال سيف الرحبي مجزأً في ثلاثة أعداد ورقية متتالية من ملحق شرفات الأسبوعي تعود إلى عام 2017 (4، 11، 18 أبريل)، وأحسب أن هذا المقال هو سبب احتفاظي بالنسخ الورقية الثلاث حتى الآن، بالإضافة إلى مواد أخرى مهمة بطبيعة الحال. أما عنوان المقال فهو "كرة القدم .. المقهى ولذّة احتراق المحرّم". ومبعث اهتمامي به كما يبدو هو حديث سيف الرحبي عن كرة القدم. وأحسب أنه من نصوص الرحبي النادرة التي يتحدث فيها عن اهتمامه بكرة القدم.

وعلى الرغم من أن المقال موزعٌ على ثلاثة أجزاء طويلة، لكن الرحبي يخص كرة القدم بفقرتين فقط في الجزء الأول منه، يحدّثنا فيه عن لعِبه كرة القدم مع الأطفال صغيرا، وأنها بقيت هوايته الوحيدة من بين الرياضات الأخرى، ويصف توحّده كبيرًا مع الشاشة المضيئة في غرفته نصف المضاءة في صقيع ناء، وهو يتابع مونديال العالم لكرة القدم، ليدفع به بعضا من العزلة الأبدية؛ ففي تلك المناسبات ينصهر المُشاهِد، المتموضع هامشا خارج حدود الفعل ضمن المستطيل الأخضر، في جماليات المتون العالمية لمسابقات اللعبة، فيحس المرء "أنه جزء من هذا الكرنفال الكوني".

ويتساءل الشاعر العماني: "من منا في طفولته لم يجرّب كرة القدم، على الرغم من قسوة أجواء تلك الطفولة بشحّ المعيش وضيق الحال، كانت حرة طلِقة تلك السهوب والشواطئ والوهاد. الكرة الشراب حسب التعبير المصري في الأحياء الشعبية الفقيرة، في عُمان يطلقون على الكرة اسم (التوفة) مثل (الطابة) في الشام. من منا لم يجرّب لعب كرة القدم على اختلاف أشكالها الدائرية؟".

يبعث تساؤل سيف الرحبي تساؤلا آخر، على الرغم من بديهية سؤاله "من منّا لم يجرّب لعب كرة القدم؟": أليست الكتابة وحدها كاشفةً عن هذا الجانب من حياة الناس والشخوص، وهي وحدها سبيل القارئ لاكتشاف النقطة المشرقة التي تلتقي فيها لعبة القدم ولعبة القلم؟ ماذا لو لم يكتب الأدباء عن علاقتهم بكرة القدم، هل كنا سندرك حقيقة تأثّرهم بها وذكرياتهم عنها؟ وهم الذين ينزوون غالبا -من أمثال سيف الرحبي- في عزلتهم الكتابية والتأملية؟ وهل كنتُ لأعرف شخصيا هذا الجانب من اهتمام سيف الرحبي بها لو لم أقع مصادفة على نسخ ورقية مضت عليها سنوات، توقف الملحق خلالها برمّته عن الصدور؟ كرة القدم شأن أدبي خالص إلى جانب كونها شأنا رياضيا، ويحفظ لنا الأدب نصوصا وكُتبا ساحرة ومواقف لأشهر كتّاب العالم من هذه اللعبة الأكثر شعبية على الإطلاق، نقرأها بمتعة لا تقل عن متعة مشاهدة كرة القدم أو لعِبها. وجريا خلف هذا الفضول السحري نظّمت مؤسسة بيت الزبير في 27 يناير 2021 ندوة حملت عنوان "مارادونا، الأدب، وكرة القدم" في أعقاب وفاة لاعب العالم الأشهر دييغو أرماندو مارادونا، وتقصّت أوراقها حضور كرة القدم في الآداب العالمية والعربية، ومن المؤمل أن تصدر أعمالها في كتاب قريبا.

وعودة إلى مقال سيف الرحبي، نجده لا يكتفي بذكريات طفولته أو متابعته للبطولات العالمية بنحو خاص، ولكنه يسرد لنا شيئا من ذكريات تشجيعه لنادي الزمالك المصري، وحضوره في مدرّجات الملاعب إبان إقامته في القاهرة، يقول: "في القاهرة كنتُ مشجعا لنادي الزمالك دون الأهلي على الأغلب مثل بقية الوافدين إلى مصر، كان تشجيعهم للزمالك أكثر .. مرة دفعني شغف التشجيع للذهاب وحيدا من حي (الدقّي) "متشعبطا" على سطح الباص المكتظ بالركاب، إلى استاد نصر بمدينة نصر. وحين وصلت دخلت في ذلك الخضم البشري الهائج، لا أعرف أين أتجه .. ومن هم مشجعو الزمالك حيث اختلط الحابل بالنابل كما يقال. والشرطة الراجلة ومن هم على ظهر الخيول يطاردون الناس على غير دليل وهدى يخبطون بالعصي هنا وهناك، قيامة بشرية من الفوضى والجري على غير اتجاه وجدتُ نفسي في حيرة من أمري تائها بين الحشود أنى هربت، حتى اتجه خيّال بقامة فارعة وعصا طويلة نحو الكتلة البشرية التي كنت محشورا بينها، يهوي بعصاه أنى اتجهت وانقضّت، حتى أصابني نصيبي، ضربة قاصمة طوّحت بي إلى ما يشبه الغيبوبة والدوران، بعد أن لملمت أشلائي إثر ضربة العصا القوية، عدت إلى البيت.. ولم أذهب إلى أي استاد لتشجيع الفريق الذي أحب، حتى حلّت صدفة أخرى، حين سكنت لفترة قصيرة في حي العباسية قريبا من معهد البعوث (المدرسة الإعدادية والثانوية) وكانت الشقة التي سكنتها مع زملاء، من مصر قدموا من قرية قريبة من طنطا، أحدهم اسمه محمد والآخر قطب ونسيت اسم الثالث، إذ في ظل منحة عشرين جنيها في الشهر لا بد من اقتسام السكن مع آخرين.. كان الزملاء أهلاوية، وحين أزف موعد (الكلاسيكو) المصري قرروا الذهاب إلى الاستاد القريب من حي العباسية.. ذهبت معهم، لم تكن هناك صعوبات تُذكر، حين تمركزنا في المقاعد المخصصة للأهلاوية.. بدأ اللعب، وبدأ التشجيع والصراخ والشتائم الحادة بين مشجعي الفريقين العتيدين.. وجدت نفسي مضطرا للإفضاء بسري، إلى الزملاء (يا جماعة أنا زملكاوي مش أهلاوي).. همسوا في أذني بعصبية، (اخرس) وإلا حلّت بك وبنا المصيبة، يا نهار إسود..".

في هذين الموقفين، نستشف الزمن والمرحلة اللذين كان فيهما الرحبي طالبا مبتعثا في السبعينيات إلى القاهرة. وعلى خلاف كثير من المثقفين الذين يفضّلون إخفاء ميولهم الكروية، يصرّح الرحبي أنه كان زملكاويا في جمعٍ من المشجعين الأهلاوية، وأحسب أنه ما يزال زملكاويا على الأرجح، بعد أكثر من أربعة عقود من تلك الذكرى.

أما سماء عيسى، فيفرد مقالا لافتا عن النجم العماني المعروف بدر الميمني بعنوان "بدر الميمني شروق يهزم الأسلاك الشائكة"، نشره ضمن كتابه "اقتراب من النبع: شهادات ومقالات في الأدب والثقافة والتاريخ" الصادر عن دار سؤال في عام 2017. كتب سماء عيسى هذا المقال إبان بطولة كأس الخليج الـ19 في عام 2009 التي أقيمت في مسقط، وتوِّج فيها المنتخب العماني بالبطولة لأول مرة في تاريخه. يحتفي سماء عيسى بالبطولة التي أعادت النجم بدر الميمني إلى الملاعب من جديد، بعد اختفاء أثار التساؤلات عن واحد من ألمع من أنجبتهم الكرة العمانية، وصنعوا بهجة الشارع العماني من أقصاه إلى أقصاه بأهدافه التي لا تُنسى.

وكما فعل الرحبي، يسرد سماء عيسى ذكرياته من على المدرّجات، تحديدا في المباراة التي جمعت بين المنتخب العماني والمنتخب البحريني، ومستحضرا في الآن نفسه ذكرى عودة المنتخب قبل أربع سنوات بفضية البطولة من قطر بعد خليجي 17، والاحتفال الرسمي والشعبي الكبيرين اللذين استُقبل بهما في استاد بوشر الرياضي. وفي الحالين كان سماء عيسى يرصد من مكانه بين الجماهير تحركات الميمني، فيما يشبه رسم "بورتريه" وجد طريقه إلى النشر بعد ثماني سنوات.

يصوّر سماء عيسى بدر الميمني عن قرب، ولكنه بدر الإنسان هذه المرة، منذ الوهلة التي لمحه فيها خجولا في الاحتفال الكبير، يدفعه رئيس الاتحاد العماني لكرة القدم باتجاه الجماهير التي تهتف باسمه، وقد بدا الميمني لخجله غير قادر على تلك المواجهة. يقول سماء عيسى في نفسه: "لقد خُلق هذا اللاعب ليكون شاعرا، فخجله هذا يذكرني بخجل الشعراء وانسحابهم إلى الظلال، كلما سُلطت الأضواء عليهم".

ولا يشبّه سماء عيسى بدر الميمني بالشعراء في خجله وحسب، ولكنه يراه شاعرا في لعِبه كذلك، يقول عنه: "إن قوته الشاعرية في اللعب بالملعب، يحرّكها ذلك الدافع الطفولي البريء في التعاطي مع الأشياء وحركتها في الحياة". ولا يفوت سماء عيسى أن يعقد مقارنة جسمانية بين الميمني ومارادونا، فكلاهما قصير القامة، وإلى هذه البنية يعزو عيسى سر البراءة الطفولية لديهما، يقول: "هذا ما يتجلى واضحا لدى بدر ومارادونا، ويفسّر ذلك أيضا سر حب الأطفال لهما، إذ لا اعتماد هنا على القوة الجسمانية التي هي محدودة لديهما (...) سر التفوق هنا هذه البراءة في التعامل مع حركة الملعب، والتعامل مع زملائه بذات الحب، كما التعامل مع خصمه في الفريق الآخر".

يشي مقال سماء عيسى بمعرفته الشخصية والقريبة من النجم بدر الميمني، نستشف ذلك من المعلومات التي ساقها عن إقامته في قرية الشعيبة بولاية المصنعة، وعن يتمه المبكر، والتحديات التي ساقته لمضمار التحدي وصقل موهبته الكروية، التي غدا بسببها اسمًا لا تنساه الجماهير العمانية.

وإذا كان سيف الرحبي في مقاله أشار إلى الوحدة الكونية مع الكرة كما في بطولات كرة القدم العالمية، يتحدّث سماء عيسى في مقاله كذلك عن ذوبان الجموع في المضمون الإنساني الكبير، ولكنه يورد ذلك في سياق الحركة التضامنية مع غزة التي بدرت من بدر الميمني بُعيد تسجيله هدفا من ضربة حرة استقرت في الشباك، فعبّر عن فرحته بالهدف بخلع "فانيلته" الحمراء، لتنكشف تحتها "فانيلة" أخرى بيضاء عليها عبارة "تضامنا مع غزة"، ونال على إثرها إنذارا من الحكم. يؤول سماء عيسى هذه الحركة الفدائية التي يعي الميمني أنها قد تجر عليه الطرد من الملعب، بأنَّ الإنسان (الذي يمثله بدر في السياق) لا يتحقق وجوده إلا بالذوبان في الهمِّ الإنساني، مستلهما في تأويله هذا تأويل المفكر الفرنسي ميشيل مافيزولي لأسطورة نرسيس، إذ يذهب مافيزولي إلى أن نرسيس لا يغرق في الماء وهو يحاول بلوغ صورته التي عشقها، وإنما "ضاع في الكون الذي ترمز له الترعة". وبدر الميمني بحركته التضامنية مع غزة، كما يقول سماء عيسى، "يكشف عن قلوبنا جميعا، وكان إذ ذاك كمن جرى يلفّ الكون العربي والعالمي، معلنا تفتّح النرجس العماني الجميل".

ويضيف في وصف اللحظة التي شهدها من مدرّجات الملعب: "هكذا يغيب الفاصل بين الأنا والنحن، ولا نغدو نحن مشاهدين لمهارات لاعب فذّ كبدر الميمني، بل نذوب حتما في المجموع، نحن وإياه، ثم يذوب المجموع حتما في المضمون الإنساني الكبير، الذي ذكّرنا بدر إياه وحمّلنا وهج التواصل مع عطائه".

يعدّ مقال سماء عيسى هذا من النصوص الأدبية النادرة التي احتفت بالنجم بدر الميمني، سبقه إلى هذا الاحتفاء اللاعب الراحل غلام خميس، الذي عُدّ على مدى عقود مارادونا كرة القدم العمانية، كما كان حارس المنتخب العماني الأمين علي الحبسي ممن حظوا باهتمام الكتّاب والأدباء، وكذا الشأن لمحمد ربيع صاحب ركلة الفوز بخليجي 19 في عام 2009.

تعلّمنا كرة القدم أن الفرد (مهما اعتقدنا بشأن عزلته) جزء من هذا الكل، وأن العالم يمكن أن يتوقف دقائق طويلة بسبب حدث ما على المستطيل الأخضر، وأن الأنفاس يمكن أن تنحبس في الصدور لإصابة لاعب أو لركلة جزاء تغيّر تاريخ اللعبة. وهكذا، فإن الوحدة غير المتحققة في الواقع، تصنعها كرة القدم* كآخر الآمال الجميلة التي لا تُوجِد متعتها داخل المستطيل الأخضر وحسب، ولكن عندما تجد طريقها إلى الأدب كذلك، فيصبح لزمن المباراة المحدود طعم الخلود في الكلمة والمخيلة على حدٍّ سواء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* تحدّث الكاتب سليمان المعمري عن كرة القدم التي وحّدت العرب كما لم تفعل السياسة في مقال حمل عنوان "صخرة سيزيف التي تحولت إلى كرة" ونُشر في جريدة عمان بتاريخ 18 ديسمبر 2021 في أعقاب بطولة كأس العرب التي أقيمت في الدوحة من 30 نوفمبر حتى 18 ديسمبر 2021.