قصة لن نصدقها بالضرورة

09 نوفمبر 2021
09 نوفمبر 2021

أصبح من الواضح أننا نميل لتبني "قصة" عن الحياة ومعناها وما قد تذهب إليه، نفسر من خلالها الظواهر الطبيعية، وحتى تفاصيل حياتنا اليومية، تحكم هذه القصة قبضتها على ما يحدث معنا، إذ أنها تكون بمثابة مرجعية للتفسير، وأقرب لكونها مرجعية معيارية. ومع ذلك اعتمد الإنسان على مر التاريخ على هذه السردية نفسها كمسوغ للفظائع التي ارتكبها بحق الآخرين، فينقل لنا التاريخ كيف تم استثمار الدين في التمييز العنصري على أساس العرق، ثم تبعه التمييز بين النساء والرجال من المنطلقات الدينية نفسها، ولكن مع تغير هذه السردية، وميل العالم نحو تصديق ما يسمى "العلم" أو لنقل هنا "قصة العلم" أصبحت هذه القصة، لاعباً أساسياً في التسويغ لكل الممارسات الإنسانية عبر التاريخ منذ أن تجلت أدوات العلم ونتائجه المادية الملموسة، فهنالك البحوث التي ذهبت نتائجها لاختلاف حجم وتكوين جمجمة الرجل الأسود عن الأبيض، واستخدمت البحوث نفسها تقريباً أو دعوني أقول تنويعات عليها لتبرير اضطهاد النساء، وتكريس الهيمنة الذكورية.

يطل علينا اليوم علم النفس التطوري ليصبح بمثابة مرجعية جديدة لتفسير ما يحدث معنا، وصولاً لعلاقتنا العاطفية وتوقعاتنا بشأن ميولنا ورغباتنا، يصبح الأمر كما لو أننا نتعامل مع أيدلوجية جديدة أو دين جديد، ومن الصعوبة بمكان الرد عليه أو دحضه، لأن التصاقه بالعلم، إما يخيفنا لأننا لسنا ضليعين بالعلم وأدواته وتجاربه، أو أنه يبدو مثل الحقيقة المثبتة التي لا يمكن الجدال حولها، لكن تُرى ألا يتم استغلال هذا العلم مثلما حدث في الماضي، لتمرير وتكريس هيمنة فئة على أخرى؟ والمهم أيضاً ألا تشبه المحصلة من هذه المحاولات الإنسانية لتكريس "الحتمية البيولوجية" محاولات أخرى في سياق تكريس مفاهيم مثل القدر وغيرها والتي تتخذ لبوساً دينياً؟ أتذكر الآن أنني قرأت قبل أشهر كتاب "أسباب وجيهة للمشاعر السيئة: أحدث الأفكار في مجال الطب النفسي التطوري" لراندولف ام نيس، ولم يبدُ لي للحظة واحدة أن هنالك قدراً من الوثوقية المفرطة فيما يمكن أن نسميه مِشرط " التطور" بل هي دعوة لاستخدام التفسيرات التطورية لمواجهة الأسئلة الطبية، إنها مهمة من بين أشياء أخرى مثل تجاربنا الشخصية وطبيعة العالم الذي نعيش فيه اليوم بشروطه التي قد نظهر عاجزين عن التوافق معها باستعداداتنا الجينية والثقافية. وهذا مهم جداً. لكن هنالك من يستخدم تلك التفسيرات التطورية، لكي تصبح بمثابة نصوص مقدسة تُرمى جزافاً لتبرير أفعالنا، ومنها على سبيل المثال والذي يعتبر شائعاً تبرير خيانات الرجال، والتفكير بأن ميل الرجل للتعدد قادم من صلة وثيقة بكون أولوياته هي إشباع رغباته الجنسية.

يقول Anthony Gottlieb في مقالة له بعنوان " ليس الأمر كذلك بالضرورة" بأن العلماء يميلون لتوخي الحذر بشأن تصنيف أي سمة إنسانية على أنها "تكيف تطوري" وبأن هذه السمة موجودة لأنها توفر ميزة إنجابية – تمرير الجنيات – على اعتبار أنه الشيء الذي نعيش لأجله. وكان عالم الأحياء جورج ويليامز قد حذر من سهولة إساءة استخدام هذا الأمر. هنالك إغراء كبير لتفسير ما يحدث معنا من خلال هذه القصص، كان غولد، عالم الحفريات بجامعة هارفارد وكاتب العلوم الشعبية، يهدف بشكل أساسي إلى مناقشة وفحص الطموحات المتزايدة لعلم الأحياء الاجتماعي، إذ رأى بأن ربط سلوك البشر بماضيهم التطوري محفوف بالمخاطر، لأسباب ليس أقلها صعوبة فك الارتباط والتشابك بين الثقافة والبيولوجيا. لم يحيَ غولد الذي توفي عام 2002 للوقت الذي يرى فيه أن الهدف الأول لعلم الأحياء الاجتماعي، هو اختزال العلوم الإنسانية إلى النظرية الداروينية".

من السهولة أن ندحض الأفكار التي تقدم لنا ممن يقدمون أنفسهم على أنهم مفكرون في التنمية البشرية، أو مدربون، أو أي خبراء في الحياة، لكننا نبدو عاجزين أمام العلماء خصوصاً أولئك الذين ينطلقون من حقول العلوم التطبيقية لا الإنسانية، ومع ذلك أثار اهتمامي بصورة خاصة مقالة رائعة نشرت في منصة معنى بعنوان: "لا حب في البراري: كيف شوه علم النفس التطوري مفاهيمنا العاطفية." للكاتب معاذ العميرين. تجادل هذه المقالة حول الخطاب السائد فيما ترغب فيه المرأة وما يريده الرجل، تلك التقسيمات الصلبة والمتماسكة ظاهرياً والتي تنطلق من سرديات تطورية، تثبت أن جيناتنا تطبعنا على سلوك بعينه، كأن تفضل المرأة الارتباط برجل ثري أو أن طبيعة الرجل هي الخيانة ويجب علينا تقبل ذلك لأنه أمر خارج عن إرادته. لتصبح هذه النظريات القادمة من علم التطور بمثابة غطاء علمي يشرعن أوضاع الجنسين في المجتمع ويحافظ على التراتبية الجندرية داخل النظام الذكوري. تفكك هذه المقالة دور البيئة الثقافية وليس التركيبة الجينية في دفعنا نحو ما نقوم بفعله، كما تدرس السياقات التي ولّدت تلك الأفكار عن الحتمية البيولوجية حتى تلك المرتبطة بالواقع الاجتماعي الذي خرج منه أطباء الأعصاب ممن ساهموا في تكريس هذه القراءات، على اعتبار أن كل هذه الظروف أسهمت في توجيههم نحو الأخذ بحقائق بعينها مع تجاهل أخرى قد تناقض ما توصلوا إليه.

وعودة لمقالة Anthony Gottlieb، فهو يشير لكتب كانت الأكثر تأثيراً في وقت نشرها مثل كتب سانتا باربرا وستيفن بينكر والتي تركز على التحديات التي واجهها أسلافنا عندما كانوا صيادين في السافانا الأفريقية في عصر البليستوسين (ما بين 1.7 مليون إلى عشرة آلاف سنة مضت) والتي تقول أن جماجمنا اليوم ما زالت تسكن في العصر الحجري. إذ تعتبر عقولنا مجموعة من الوحدات التي كتبها الانتقاء الطبيعي والتي تشكل الآن طبيعة بشرية عالمية. ببساطة تبدو عقولنا إذن كما لو أنها تطبيقات قيد التشغيل في هاتف ذكي. وتقول لنا هذه الكتب اكتشف هذه التطبيقات وسترى ما صُمم العقل من أجله. الغريب أن هذه الموثوقية والتوكيدات حول ما صممت من أجله عقولنا ليست موجودة عندما يتحدثون عن الطبيعة وما يحدث فيها. إن هذا بحد ذاته مثير للاهتمام وربما السخرية أحياناً.

ينظر لمن يرفضون هذه السرديات أي "المثقفين" على أنهم يرفضون الاعتراف بنتائج الدراسات في هذا المجال والتي قد تجعل من أبحاثهم ونطاقات أعمالهم شيئاً لا قيمة له، ما يهمني عزيزي القارئ أن هذه الفكرة ليست جديدة كلياً في 2002 كتب " Louis Menand مقالة حول ما يفسره التطور عن أنفسنا. وجاء على ذكر مجموعة ممن يعارضون سرديات التطور والتي أصدرها أحد ساردي هذه القصص على أنهم هم علماء الاجتماع والمعلمون التقدميون والنسويات والأكاديميون وكتاب الأعمدة الليبراليون، ومتبنو الفن الطليعي والاشتراكيون. ولو تأملنا قليلاً لوجدنا أن هذه السرديات تدحض بالفعل أي محاولة للفعل السياسي والتغيير إذ أنها تريد إبقاء الأمور على ما هي عليه على اعتبار أنها حتمية أليس كذلك؟ لا عجب إذن من ربطها بالرأسمالية ومن ظهورها في سياق عصر الانتقال للصناعة تحديداً.

المهم هو أن نرى في هذا كله "القصة" خيارنا الأول والمريح لتفسير ما يحدث من حولنا، وأن نشك أن هذه القصة دوما ما تكون مدعومة ممن هم أقوى وأكثر هيمنة.