قسم المندوبين

31 يناير 2024
دفتر مذيع
31 يناير 2024

قسم المندوبين، الذي عملت فيه حوالي السنوات الأربع الأولى، هو من أهم أركان دائرة الأخبار.. أحبُّه كثيرا، وأعدّه مع قسم التحرير التكوين المهني الأول بالنسبة لي. الأخبار مدرسة ومربٍ للإعلامي، ومدخل مهم قبل حمل الميكروفون أو الوقوف أمام الكاميرا.. من خلال قسم المندوبين وجدت نفسي فجأة- وأنا لم أبلغ العشرين من العمر- في عالم لم أخطط له. فبعد أن كانت مقابلة مدير دائرة في وحدة حكومية أمرا ليس سهلا بالنسبة لي، إذا بي هنا- كما باقي الزملاء- أحضر أكبر المؤتمرات في الدولة، وأقابل أكبر المسؤولين من مدنيين وعسكريين، وأجري معهم حوارات أو تصريحات صحفية، وقد أحظى بمعاملة خاصة في بعض الظروف. وتتوسع مهام التغطيات الإخبارية بحجم الجغرافيا العمانية الواسعة.. حتمًا ساعدتني هذه الفترة في اكتساب العديد من المهارات، والتهيئة لأصبح مذيعا في السنة التالية. فهنا بدأ كسر حاجز الخوف من مقابلة أي شخصية أو مجموعة، وفي أي مجال، وكيفية التحاور، وانتزاع المعلومة بشكل ناعم، وكذلك مواجهة الكاميرا المحمولة عندما يُطلب مني مجرد حمل ميكروفون أخبار التلفزيون (لم تنتشر بعد شعارات القنوات التي توضع على الميكروفونات)، وما زال المصور يجاهد في كل الاتجاهات. الكاميرا على كتفه، وخلفه زميله الذي يحمل جهازا آخر، ويربطهما ببعض بكيبل (سلك)، متناغما مع حركات زميله بدقة عالية. هذا الجهاز يسجل ويمزج الصورة القادمة من الكاميرا والصوت القادم من الميكروفون الحمول.

قسم المندوبين هو المصدر الأهم تقريبا للأخبار المحلية للإذاعة والتلفزيون. في هذا القسم لا توجد أجهزة، ولا أذكر أنه كانت لنا مكاتب خاصة، فدوامنا الحقيقي ميداني، أما أجهزتنا فهي مسجلات صوت صغيرة (وهي من الأدوات التي نشترك فيها مع الزملاء في الصحافة المكتوبة) فبعد أن يحضر المكلف منا الاجتماع أو المؤتمر أو وصول أو مغادرة ضيف رسمي، أو مسؤول كبير، نتسابق لنحظى بتصريح صحفي، والأذكى من سيحظى بتصريح خاص لم يزاحمه عليه أحد. وفي كل الأحوال كان حظ الإذاعة أقوى من بقية الوسائل من حيث السبق، فالتلفزيون ينتظر نشرة المساء، وميزة الخبر فيه أنه مدعوم بالصور، والصحافة الورقية ستنزل في اليوم التالي، وميزتها في التوسع وربما الصور، التي كانت في البدء غير ملونة.. لم تكن الهواتف المحمولة قد ظهرت، لذلك فبعد أن تنتهي الفعالية يجب البحث عن أقرب هاتف في الموقع لتملي الخبر على المحرر المناوب في قسم التحرير إذا كان موعد النشرة قريبا، ويمكن إضافة التصريحات بعد الوصول لمحطة الإذاعة للنشرة التالية، أو أن تجد جهاز فاكسميلي تبعث من خلاله، كسبا للوقت وجهد الإملاء.. العمل في هذا القسم ممتع ومتعب، فهو ميداني وقد لا يحظى بأوقات أو أيام الإجازات المعتادة، فمهامه تشبه مهام قسم التصوير الخارجي في التلفزيون، وتشبه أكثر مهام الصحافة. لذلك كانت تتكون بيننا وبين الزملاء من المؤسسات الأخرى علاقات زمالة وصداقة وتعاون تمتد إلى الزملاء في مكاتب الإعلام والعلاقات العامة في مختلف الوحدات الحكومية.

ليس للمهمات وقت ولا مكان ثابت، فاليوم في قاعة التشريفات بالمطار، أو عند سلم الطائرة (لا توجد خراطيم في المطار) وغدا في قاعة مؤتمرات، وبعده في افتتاح أو وضع حجر أساس لمشروع تنموي فوق الجبال أو في بطون الأودية أو في أعماق الرمال وهكذا.

حتى هذا الوقت لم تكن قد أنشئت بعد وكالة الأنباء العمانية، التي تأسست عام 1986 لتصبح بموجب القانون المصدر الرسمي للأخبار المحلية. بل وحتى عند بداياتها الأولى ظل هذا القسم يمد الوكالة بالأخبار، حتى اكتملت عناصرها وكوادرها المؤسِسة.

لا أتذكر الآن إن كان مفروضا عليّ أم هو ضَعف مني أن في معظم اللقاءات هناك بضعة أسئلة جاهزة أخذتُ أنزعج منها؛ لأنها توجه لكل الأحداث والشخصيات مثل: الهدف من الزيارة، المواضيع المدرجة على جدول الأعمال نتائج الزيارة، أهم التوصيات أو القرارات، رغم أنها عناصر مهمة وأساسية. ولكن معظم الإجابات عامة قد لا تضيف شيئا كبيرا. إلا أنه مع هذا فالأمر يعتمد إلى حد بعيد على الشخصية التي نقابلها، فبعضها فعلا تثري وتعطي معلومات جديدة وأحيانا جريئة. ومع الأيام ورصد ما يفعله الزملاء الأكبر والأكثر خبرة أخذت أتعلم كيفية استنباط بعض الأسئلة من إجابات المتحدث أو البناء على سؤال طرحه زميل آخر، خاصة بعد توجيهٍ أو تحريض ضمني وجهه لي رئيس القسم أ.يوسف الوهيبي بالخروج قليلا عن دائرة هذه الأسئلة.. كان فتحا مهما بالنسبة لي عندما تمكنت في إحدى المهمات من الانفراد بأمين عام مجلس التعاون الشيخ عبدالله يعقوب بشارة، الذي ربما بدأ يحفظ شكلي لتعدد زيارته، وكان في لحظة صفاء أو ربما أراد أن يدعمني بطريقته فأخذت منه تصريحًا مطولًا، حتى أجاب على آخر سؤال، وأردف بلهجته الكويتية وابتسامته المعروفة: (هاااه باجي أسئلة ؟)، شكرته كثيرا أن خصني بالحديث ووقته الثمين، ولا أتذكر كم أخذت منه للنشرة، حيث كانت النشرات تحوي الأخبار فقط وليس بها تقارير مسجلة، وظهر لاحقا ما عرف بالفترات الإخبارية الثلاث. أما النشرة التي نتمنى نحن المندوبين أن يتضمنها خبرنا، فهي نشرة الخامسة عصرا، التي نسميها (نشرة المراسيم)؛ لأن أول بث للمراسيم السلطانية عادة يكون في هذه النشرة. أما نشرة السابعة فهي ذروة الاستماع إلى اليوم.

مزعج تحفّظ بعض المسؤولين في الإدلاء بمعلومات، بينما هناك مسؤولون كبار ومناصبهم ومهامهم حساسة جدا، ولكن نجدهم أكثر مرونة وجرأة وإيجابية في تصريحاتهم. حتى إن الصحفيين يعرفون جيدا الصنفين كليهما، فيتهامسون مثلا: (عليك بفلان، بيوضح كل شي) بينما يتهامسون على الآخر:(لا تضيع وقتك. ما بتقبض منه حق ولا باطل)... على الصعيد الشخصي أنا ممتن لمعالي الوزير متقاعد يوسف بن علوي بن عبدالله. فهو أكثر شخصية التقيتها، ولم يبخل عليّ يوما بتصريح عابر أو حديث طويل.. بينما من أمثلة التحفظ من لا تجد منهم سوى أخبار بروتوكولية لا تتجاوز ذكر عنوان الحدث وراعي المناسبة وأبرز الحاضرين. فأذكر أنني كُلفت بمهمة لاجتماع إحدى المؤسسات، وبعد انتظار طويل انتهى الاجتماع وأسرعت إلى معالي رئيس الاجتماع؛ لأحظى منه بتصريح للإذاعة فكان رده: (خلاص أرسلنا الخبر للإذاعة)

= ولكن معاليك نحتاج بعض المعلومات

- الخبر فيه كل التفاصيل...

شعرت ببعض الإحباط.. وفي طريق العودة كان موعد النشرة، لأسمع الخبر يقول إن اللجنة قد اجتمعت، وبحثت بنود جدول الأعمال، واتخذت بشأنها القرارات المناسبة!!.. تلفظت بيني وبين نفسي بما يكفي للتنفيس عن غيظي وأنا أردد: (طيب، إيش هيّه بنود جدول الأعمال؟ وإيش القرارات المناسبة اللي اتخذتوها؟... ياخي يمكن ما مناسبة).