فيلم عن القصة الصغيرة وهي كبيرة
شاهدتُ هذا الأسبوع الفيلم المصري الذي تأهل لمسابقة مهرجان كان السينمائي 2020 فيلم سعاد الذي كتبه كل من أيتن أمين مخرجته والسيناريست والشاعر محمود عزت. كانت تجربة المشاهدة رائعة للغاية، تبدو السينما المصرية المستقلة خصوصا في أوج تألقها اليوم، كل فيلم جديد وعد بالإبداع والجمال، والمعالجات الفنية المتأنية والدوران بين الكوني والهامشي ومن هذه الأفلام: فيلم ريش، وفيلم ليل خارجي، وفيلم صدام.
نقترب في الفيلم من العالم الغني والساحر لحياة فتيات ينتمين للطبقة الدنيا في حي من أحياء محافظة الشرقية في مصر، الأحلام الصغيرة، والتطلع نحو الخارج بدافع من التوقعات الضارية للمجتمع الذي يعشن فيه، تنقل لنا أيتن أمين الجلسات المشتركة بين الفتيات في غرفة نوم إحداهن بما يبدو أنه إطلالة على هذا العالم الذي كنتُ أنتمي له ذات يوم، رأيتُ نفسي في ذلك الاستلقاء اللامبالي بينما نتشارك النمائم في العقد الثاني من حياتي، عندما يكون لكل إيماءة صغيرة معنى كبير، وإشارة مهمة يجب أن لا أفوتها عندما نتحدث أنا وبنات خالتي في غرفة صغيرة وضيقة في الخابورة. في ذلك الوقت لم يكن يتدخل في أحاديثنا تلك سردية العالم الآخر القادم إلينا عبر شاشات هواتفنا، أستطيع أن أقرأ التغييرات الهائلة التي وجهتها وسائل التواصل الاجتماعي في هذا النوع من الجلسات. فاليوم قد تتحدث الفتيات عن صورة إحداهن على حسابها الشخصي لساعات، بل إن كثيرا من الأنشطة التي نمارسها هدفها الرئيسي إثارة حديث في غرفة قصية عبر صورة نشاركها بتخطيط دؤوب. لم تعد الحياة السعيدة حكرا على النجوم في شاشات التلفزة، بل ها هم أقراننا يعيشونها، أندادنا الذين يحظون بفرص كان يجب أن تكون لنا.
أؤمن بطريقة ما أن هذا النوع من التلقي في جوهره يحتوي على نقد طبقي، ويمكن اتخاذه كمرآة عاكسة لطبيعة السلطات المفروضة على الفتيات ونوع الضبط الاجتماعي على الجسد والمعنى. كل هذا وأكثر أثاره فيّ ذلك المشهد الساحر الذي ينقل لوحة عادية للغاية من الحياة اليومية لسعاد ورباب بطلتي هذا الفيلم. يأتي هذا المشهد بعد مشهد تستلقي فيه سعاد على سريرها نفسه الذي سيصبح عما قليل مقر اجتماعها بصديقاتها، وهي تفتح عينيها، منطوية على نفسها، دون أن تفعل شيئا، في هذا المشهد يتجسد الضجر الذي يمسك بلحم الجسد، مشعا وخالصا وسياسيا بكل ما فيه، بينما تأتي أصوات الحياة في الخارج عبر النافذة المفتوحة.
أتذكر أن أحد إخوتي حكى لي موقفا حدث معه السنة الماضية، كان متأثرا للغاية وهو يروي لي عن التمييز الذي يتعرض له لصالح شخص آخر يتشارك معه في نفس النشاط. عندما كان يروي لي انتبهت للنبرة التي تعطي القصة كل المعنى الموجود في هذا العالم الذي نحياه، قصة صغيرة ورغم هامشيتها للغاية إلا أنها كل شيء بالنسبة لأخي. أنا لا أعرف عنها شيئا ولا أستطيع التورط بها، لكنها الحياة كاملة وفائضة رغما عن ذلك. بالنسبة لي يمثل فيلم سعاد مجاز هذه الفكرة. إذ يبدو من غير الأخلاقي ولا اللائق أن نحكم على أي تصرف بأنه مبالغ به أو متطرف. وأننا في آخر الأمر لسنا أكثر من رهائن قصصنا الصغيرة. وفيما يبدو أننا نحن الفنانون نريد ما هو أكثر من ذلك، ما هو أكثر ضخامة من قصصنا الصغيرة، إذ تبدو الحياة دوما معلقة في مكان آخر ومرد ذلك، أحلام يقظتنا التي نريدها أن تتجسد في الواقع، خصوصا إذا فشلنا في تجسيدها فنيا. سعاد إذن ستتبع قصتها الصغيرة إلى آخرها، ورباب من بعدها على الرغم من أنها ستحاول أن تتفادى عذاب سعاد ومصيرها نفسه، إلا أنها ذاهبة إلى طريق قصتها الصغيرة الكبيرة والكاملة.
ينقل فيلم سعاد وبحساسية كبيرة، الإخفاق في الوصول إلى المكان الذي نحلم به، الحياة وهي تضغط علينا بأظفارها لتدفعنا عن الهاوية، الأشياء المسكوت عنها والتي لا نريد إلا الوقوف عندها مليا، ومواجهتها بكل ما نملك من قوة. في فيلم سعاد كل انتظار وكل التفاتة نحو شاشة الهاتف، تجسد انتظارات كثيرة نحياها جميعا، وكل صد وخذلان، هو موضوع أسئلتنا على اختلاف تنويعاتها. أحمد الشخصية الثالثة في الفيلم والتي تجسد العبور الطبقي والطموح الهش لهذا الترقي، والضياع بين الصورة والواقع، بين الرغبات والشروط التي يفرضها العالم علينا.
المزاج الذي يتسلل من هذا الفيلم ليخيم على غرفة من يشاهدونه، ضار وموحش إلا أنه أليف أيضا، ففي السيارات نرقب مصر في الخارج، ومن فوق سطوح المنازل نرى حاراتها المكتظة، وفي كل واجهات البيوت والعمارات القديمة نرى أكثر من سعاد ورباب وأحمد. الكثير منهم يحملقون بأعينهم نحو الصور المحتشدة عما تعنيه الحياة والسعادة والحب والهناء.
بقي أن أقول أن الفيلم اعتمد على ممثلين غير محترفين، مثله مثل فيلم ريش. لكن من الصعب أن تشعر بذلك أثناء المشاهدة، فكل شخصية تظهر متألقة للغاية ولامعة، وكل أداء في هذا الفيلم سيورطك في مشاهدة واعدة وثمينة.
