في مديح «الشللية» ونقد امتياز الهامش
كم هو مبهج وسار ما تحظى به الرواية العمانية، والأديب العماني من احتفاء في الأعوام الأخيرة لا على الصعيد العربي كما كنا نطمح فحسب بل حتى على صعيد العالم أجمع. لكنني لحظتُ أننا اخترعنا «كيتشًا» خاصًا بنا فيما يتعلق بالأعمال الفائزة ومن يفوزون بها. إن أول ما يشاركه الغالبية عن الأعمال الفائزة، أن أصحابها عملوا عليها في الظل، وأنهم غير منخرطين في المشهد الثقافي «الموبوء» ولا ينتمون لشلة، وأنهم آثروا العزلة بدلًا من تعريض أنفسهم للأضواء في كل الوقت، ينطوي ذلك على الاعتراف بأنهم شخصيات غير استعراضية، ولا تهتم إلا بـ«أصالة» إنتاجها بعيدًا عن الصخب والرغبة في المجد. وكأن هذا كاف لإضفاء ألق وشرعية من نوع خاص على نتاجهم.
ينسى أولئك الذين يشاركون مثل هذه الأفكار أن العزلة في عالم اليوم بالنسبة للمثقف إنما تعبر عن نوع من الامتياز الذي لا يمتلكه الجميع. إذ نحن بحاجة ملحة خصوصًا في العالم العربي لنشر كتبنا، والتعريف بأنفسنا لدور النشر، كما يحتاج الحالمون منا للعيش من الكتابة فقط! هذا لكاتب غير عربي، أمر بدهي وهين، إذ يعيش الكتّاب وورثتهم على أعمالهم حتى وإن قل عددها، بل إن دور النشر تقدم لكثير من هؤلاء الكتّاب رواتب شهرية للعمل على مخطوط كتاب ما زال لهم مشروعا يتأملون تحقيقه ويراهنون عليه. كما لا يمكن أن نغفل أن برامج الكتابة الإبداعية الشحيحة في العالم العربي، والتي يترشح لها كُتاب يتوقون لمزيد من التعلم وتبادل الخبرات مع أقرانهم في هذه البقعة الجغرافية، لا يمكن أن يتحصل عليها المرء ما لم يكن منخرطًا وإن بطريقة ما في هذا المشهد الثقافي.
هذا كله طبعًا إذا اتفقنا أنهم معزولون بالفعل عن المشهد الثقافي. وهذا بالنسبة لي أمر غريب، فجوخة الحارثي مثلًا الفائزة بجائزة البوكر للرواية العالمية، أكاديمية تعمل في قسم اللغة العربية بجامعة السلطان قابوس، ولا أستطيع أن أفهم كيف من المفترض أن نكرس هذه المكانة العلمية على اعتبار أنها تقبع في الهامش والظل. ما أفترضه أن الأكاديمي والمؤسسات التعليمية الجامعية هي رافد مهم يقع في مركز المجتمعات، إنه دور أساسي وهو في الواجهة تمامًا، يشتبك مع كل الأعمال الأدبية بل ويكرس بعضها دون الآخر في المشهد الثقافي. فهو بطبيعة الحال يدفع نحو نقد أعمال دون غيرها وهكذا. إن المتابع لجوخة الحارثي يجد أنها من القلة الذين اهتموا بوجود منصة احترافية لتناول أعمالها والأخبار المتعلقة بهذه الأعمال، إذ تكاد تكون الكاتبة الوحيدة حسبما أعرف على الأقل التي تملك موقعًا إلكترونيًا. ومنذ لحظة إعلانها فائزة، أجرت جوخة العديد من اللقاءات والحوارات الصحفية مع مؤسسات إعلامية وتعليمية من دول قد لا نكون قد سمعنا بها من قبل.
حدث الأمر نفسه مع زهران القاسمي الذي فاز بجائزة الرواية العربية هذا العام، إذ تلقف الساخطون على «المشهد الثقافي المركزي» فوزه للتأكيد على أنه بعيد كل البعد عن المشهد الثقافي، وهذا غير صحيح بالمطلق، إذ شارك زهران القاسمي في أمسيات ثقافية عديدة في مسقط، واستضيف عبر المنابر الإعلامية، ليس هذا فحسب، بل تجمعه صداقة وثيقة بالأدباء الذين يعيشون هنا، كعلاقته مع بشرى خلفان التي دعمها كما دعمته في عمليهما الأخيرين. يُستشهد للتدليل على أن القاسمي قادم من الهامش، أنه يعيش في قريته البعيدة عن مسقط، ولا أعرف ما صلة هذا كله بالحضور من عدمه. هذا إذا تجاهلنا أن الكاتب يمتلك حسابًا شخصيًا على فيس بوك ويتواصل ويعلق مع زملائه وأصدقائه هناك.
ما الذي يريد هؤلاء قوله لنا عندما يقولون إن المجيد هو من يعمل بعيدًا عن هذا الوسط، في الحقيقة لا يعدو الأمر محاولة لنقد واقع حال هذا المشهد ومن يتصدره، إنها إذًا طريقة للتعبير عن رفض المشهد الرسمي. أتذكر أنني في أطروحة الماجستير الخاصة بي عن الإعلام الثقافي في عمان، كنتُ قد درستُ حالة الأشخاص الذين يحلون ضيوفًا على البرامج الثقافية في إذاعة سلطنة عمان، فهل يعملون في مؤسسات معترف بها مثلًا وبهذا فهم يمثلونها رسميًا، أم أن هذه البرامج تتيح الفرصة للأشخاص العاديين والمستقلين للتعبير عن مواقفهم وآرائهم. لقد وجدتُ الأمر معقّدًا آنذاك، إذ - وكما نعرف جميعًا - أن مؤسسات المجتمع المدني في السلطنة مرتبطة بالمؤسسات الحكومية، ويتم إشهارها بعد تحصيل التراخيص اللازمة وما إلى ذلك. ناهيك عن أننا مجتمع صغير جداً، والنخبة ممن يقبلون وهم مستعدون لهذا النوع من الاستضافة قليل جدًا. وهذا له أسباب ينبغي أن نناقشها لكن في مقام آخر.
تعالوا لنتحدث عن الفكرة الأساسية التي نلقي عليها اللوم دومًا، وتتصدر نقاشاتنا في مشهدنا الثقافي المحلي، فبدلًا من إتاحة الفرصة للحديث عن الاشتباك مع العالمي بدلًا من حصرية الباحث العماني مثلًا مع التاريخ المحلي، أو دراسة الظواهر بمناهج سيسولوجية عفا عليها الزمن، أو مدى أهمية معالجة دون غيرها في تحسين الحياة، وإضفاء المعنى لها، يطالعنا ذلك السؤال غير المفاجئ: ما رأيك في الشلة؟ ما رأيك في الشللية؟ واسمحوا لي أن أقول إن الشلة هي الشكل الطبيعي للتعبير عن الموقف والأفكار، فعادة ما نلتقي مع أشخاص يشتركون معنا في اهتماماتهم، بل ويقفون الموقف نفسه إزاء العالم الذي نعيش فيه، لا أستطيع أن أتخيل مثلًا أن شخصين محافظين جدًا قد يحبذان مصاحبة شخصين من أقصى أطراف الليبرالية. في النهاية نحن لسنا سوى ناس عاديين، نبحث عن مجتمعات صغيرة ننتمي إليها، نستطيع عبرها تنمية فضولنا وأسئلتنا ورغبتنا في مزيد من المعرفة. فكيف يكون ذلك عيبا بالضبط؟ قد يجادل أحدكم بأن المسألة لا علاقة لها بالشلة في ذاتها، بل في أن تمتلك شلة دون غيرها السلطة التي تخولها لإقصاء شلة أخرى أو تهميشها. وهل يحدث هذا في عُمان حقًا؟ وعندما يحدث هذا ألا يمكن أن نقول أن الملام هنا هو آليات للسلطة غير المنوطة بمؤسسة لها جسم واحد، ونوايا واضحة، إنها إذًا حرب المثقف مجددًا، حرب في مواجهة السلطة في أشكالها المختلفة.
لا أعرف لم يبد مشروعا أن يشكل سارتر مع آخرين شلة تجتمع في مقهى دي فلور في بولفار سان جرمان، لينتهي بهم الأمر لتأسيس مجلة تعكس آراءهم واهتماماتهم، أعني ألم يكن هذا النمط هو الطبيعي طوال الوقت؟ هل نريد أن نقول بأن كاتبًا حقق نفسه دون أن يتواصل مع الآخرين؟ هل هذا حقيقي أصلًا؟ وما الدليل عليه؟ هنالك شبكات معقدة بين العديد من الكتّاب والمفكرين حول العالم، جمعت أناسًا مع بعضهم وهم في قارات مختلفة في ظل عالم لا مواصلات فيه ولا ضغوطات كالتي نعيشها اليوم من حالة من الاغتراب الذي نرغب دومًا في التعافي منه، عبر التواصل مع من يشبهوننا، خصوصًا مع تذرير - من ذرة- كل السرديات والأفكار.
لدي جار وجارة لطيفان، يمتلك هذا الجار سيارة لا يمتلكها في عمان غير سبعة أشخاص، يلتقي بهم في موعد دوري، يا لبؤس هذه الشلة! ولنتذكر ذلك الشاب العماني الذي كان طموحًا ويريد أن يلتقي بمجتمع الشباب الذين يستخدمون ويتفاعلون عبر المنصة العالمية Reddit فدعا الناس للقاء في مقهى داخل مسقط، وعندما ذهب ولم يجد أحدًا قد لبى الدعوة كتب على لوحة (Oman) فانتشرت بشكل واسع في كل مكان عبر هذه الشبكة لأن الناس ظنوا أنه يعني oh man أي ينادي رجلاً! يا لبؤس تلك الوحدة إذن.
فلنفكر ماذا لو اخترنا الشلة المناسبة مثلاً؟
