في كراهية الحكمة

30 مايو 2023
30 مايو 2023

راجَ على وسائل التواصل الاجتماعي اقتباس للكاتبة المصرية الشهيرة رضوى عاشور، بسبب حساب مكتبة معروفة قامت بنشره. وجاء كالتالي: «أنا بطبيعتي مقاتلة، ولكنني بلغت قدرا من النضج يسمح لي بالتمييز بين معركة يمكن أن تحقق أهدافها، ومعارك لا جدوى من خوضها» عبرت عن امتعاضي من الحكمة وكراهيتي لهذا النوع من الاقتباسات التي تأتي مجتزأة من سياقها. تفاجأت برسائل من المتابعين عن دوافع رفضي لهذا الاقتباس، ووجدتها فرصة مناسبة لممارسة هذا النشاط الذي أحب «كراهية الحكمة».

تأتي الحكمة مفتعلة وتنطوي على تحيزات تتجاهل السياقات وتجعل من الموقف المعطى «نموذجا» وتمتاز بطبيعة اختزالية ومحيرة، ويمكن أن يكون نقيضها «حكمة» أيضا. فلنتأمل المثال السابق، ألا يصح أن نقول إنك لن تعرف المعارك المستحقة لعنائك ما لم تخضها تماما، ما لم تجرب لحمك فيها، ما لم تجترح من العالم فرصتك لتجربتها؟ كيف يمكن أن نحدد جدوى الأشياء قبل عيشها بالفعل؟ ثم هل نحن جميعا نمتلك امتياز اختيار معاركنا؟ وما نستطيع أن نتجنبه؟ هل نملك حتى رفاهية التخلي عن المعارك غير المجدية في نظرنا؟ هل العالم يسير بهذه الطريقة؟ لا أظنه كذلك. هنالك دوافع قسرية تلقي بنا في فم القرش رغم رؤيتنا له حتى ونحن بعيدون.

جعلت الحكمة كل شيء مبتذلا حتى الأدب والفنون، واعتبرتها منصات لتمرير أفكار وخطابات كبرى كما يقول كاتب لا أتذكره الآن: «إذا تعرّى السرد من الحكمة ومن العبرة ومن البديع فإنه يرفض باحتقار، لهذا السبب أهملت حكايات ألف ليلة وليلة في الثقافة الكلاسيكية. أي فائدة تجنى من حكاية تقول إن فتى دخل بستانًا ورأى فتاة جميلة وجرى له معها ما جرى». فلنتخيل الخسارة الفادحة لكثير من الآداب التي لا تقدم حكما واضحة ويمكن اقتباسها أو التوصل إليها بطريقة مباشرة.

تنطوي الحكمة على فكرة تدعي امتلاك الحقيقة واليقين، كأنما هنالك قواعد للعبة، وفي عالم كهذا الذي نعيش فيه لا أظن أن الانحياز «للحقيقة» بطبيعتها المطلقة قد أدى بنا إلى غير التهلكة، ربما أهم أطروحة لما بعد الحداثة هي «رفض السرديات الكبرى» بعد أن أدت عقلانية العالم وحداثته إلى الحرب العالمية الثانية. يكتب الشاعر المصري مهاب نصر: «أحيانا تبقى الحكمة مش أكتر من تعبير بائس عن الحرمان من الحماقة.. يعني حماقة مضاعفة» فالحكمة مضجرة، ولا أعرف لم يبدو نقيضها بالنسبة للناس يعني بالضرورة الإصرار على الحماقات نفسها دون أن نتعلم منها.

اشتهر الناقد الثقافي السولفيني سلافوي جيجك بكراهيته للحكمة أيضا يقول في أحد اللقاءات معه: «أعتقد أن الحكمة هي أكثر شيء مقرف يمكن أن تتخيله، الحكمة هي أكثر شيء ممتثل للأعراف، مثلا أن تقوم بشيء فيه مخاطرة وتنجح سيقول لك من طلب العلا تحمل الصعاب، فلنقل إنك قمت بالشيء نفسه ولكنك فشلت ستجد حكيما آخر يبرر ذلك»، أما رولان بارت فيكتب: «ماذا لو مدحنا الطيش» وكما يقول: «تبدو الحكمة العظمى وكأنها بلادة، وتبدو البلاغة القصوى وكأنها تلعثم»؟

ما الذي سنجنيه من الطيش حتى على المستوى السياسي، إن الحركات الثورية على مستوى العالم بدأت من تشكيلات صغيرة بدأت في الحانات وفي المقاهي الصغيرة، كانت تعتمد على شخصيات وصفت بالمتهورة، مما يجعلني أفكر طيلة الوقت أن التاريخ لم يكتبه إلا المتهورون، إن النظر للأمر من منظورات ومسلمات سبق أن عاشها أحدهم لا يعني سوى الامتثال لأشكال طوعية من الهزيمة واليأس. حتى وإن فكرنا على مستوى أعقد فإن التمثيلات الجاهزة التي تقدمها حتى الحركات التحررية حول العالم هي محل نقد مستمر، يجعلنا كأحرار فعلا نفكر فيما تعنيه تلك المثل والحكم التي يتبنونها، إن هذا الاستعداد يجعلنا أكثر جاهزية للتفكير الناقد في كل شيء مهما كان مصدره، كما يدفعنا للتمسك في حقنا بأن لا يصادر أحد تجربتنا الشخصية والفردية الخالصة، التي لن تخص أحدا غيرنا.