فصائل الفضاءات

16 أغسطس 2022
16 أغسطس 2022

كنتُ أفكر منذ مدة طويلة بتقديم برنامج يعنى بالأفكار المعاصرة، يقدم مقاربات تبسيطية "تقريباً" لمفاهيم باتت تغزو عالمنا وكل عملية تحليل إزاء أي ظاهرة حديثة. فما الذي تعنيه الشعبوية مثلاً؟ ولماذا تزدهر دراسات ما بعد الاستعمار في هذا الوقت، وكيف يمكن مقاربة موضوع ما من زاوية الدراسة هذه. عرفتُ أن الأمر يتطلب التزاماً كاملاً من قبلي لأنني إزاء تحد شخصي هذه المرة، إذ تفوتني معرفة الكثير من هذه المفاهيم، خصوصاً وأن هنالك جدلاً حيوياً حولها، ونقداً متشعباً قد يتطلب أن أكون طالبة في صف دراسي لأتعرف عليها جميعاً.

إنها لحظة فائقة في علاقتي بعملي كمعدة ومذيعة في إذاعة وتلفزيون سلطنة عمان، إذ يدفعني العمل للتفكير والبحث، والتطور على الصعيد الشخصي، ومع بداية هذا المشروع وجدتُ أنني أتوق لكل حوار سأجريه، أقرأ كتابين أو كتابا بحد أدنى لكل حلقة مدتها نصف ساعة، وأتواصل مع نخبة من المفكرين والمترجمين العرب، بعد كل حلقة أسجلها أشعر بأن أشياء كثيرة فاتتني، إنه كان ينبغي عليّ الاستعداد أكثر لمواجهة الضيف بأسئلة عن مسلماته، كأن يعتقد الضيف أن ما بعد الحداثة تعمل على تفتيت العالم، ويفوتني أن أقول لكن الحداثة انتجت حربا عالمية وتطرفاً في المركزية الأوربية على اعتبار انطلاقها من موقع عقلاني موضوعي بعكس الشعوب الأخرى وقد أعطت للتمييز نظاماً صلباً. لكنني أيضاً أنزعج عندما أقرأ بعض الدراسات ما بعد الكونوليالية، إذ تبدو متجنبة للنقد، ومتسامحة انتصاراً للهامش الذي يشعر "الغرب" إزاءه بالذنب.

يتحول عملي إلى صورته التي تخيلتها دوماً، كما لو أنني أعيد نفسي إلى قلب الصحافة الجادة، وأسعى جاهدة لكي أكتشف ما سيحدث في هذه الطريق فهو مجهول بالنسبة لي، ومثير في الوقت نفسه، كما أنه يعيد هذه الأفكار إلى قلب الفضاء العمومي ليتم النظر فيها وتمحيصها والبحث عنها، إن البرنامج لا أعتقد بأنه يهدف إلى تحقيق مهمة "تثقيف" بقدر ما يهدف إلى إثارة الاهتمام والتحفيز نحو قراءة أطروحات معاصرة، قد تتناقض وقد تتفق في مكان ما. إنه محاولة للملمة ما يمكن جمعه من عناصر باتت تشكل نظريات العلوم الإنسانية التي تعتمد عليها مؤسساتنا كلها، اذ هي الفضاء الذي تتحرك فيه أطروحات أساتذة الجامعة، ومنطلقات ودوافع الإعلاميين في وسائل الإعلام المختلفة، وهي ما يجعلنا نعبر بطريقة دون غيرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأعي صعوبة هذه المهمة، أعني ربط كل هذه المفاهيم التي قد تبدو مجردة وبعيدة بالفعل السياسي، بالواقع المعاش وحياتنا اليومية.

بعد بث الحلقة الأولى قبل أسبوعين بعث لي أحد المستمعين أنه طلب كتاب "رغبة ما بعد الرأسمالية" لمارك فيشر على الفور، وقد أحسستُ حينها بجدوى هذا العمل الذي لا أبالغ إن قلتُ أنه مضنٍ، خصوصاً في بيئة قد تظن أن أي عمل كهذا هو ضرب من الجنون إما لأنه نخبوي، ويبدو استعلائياً في لغته وأسئلته، أو بيئة ترى بأن تقديم القليل كاف فلماذا يتعب المرء نفسه في تحديات جديدة؟ في ضرب بمسؤولية الكاتب والصحفي المهنية، والأخلاقية بل مسؤولية المرء تجاه ذاته، في أن يكون صادقاً معها، وأن يسعى قدر المستطاع لتحقيق قيمة فعلية مما يقوم به. قد لا أجد هذا التشجيع، ومع ذلك ينبع من داخلي التزام لا نهائي بمهنتي وجوهرها. حتى هذه المسألة مثلاً هي في صلبها سؤال ما بعد حداثي، حول العلاقة بالعمل؟ الجدوى؟ الحقيقة؟ الوصول للمعنى؟ أو اللعب بصفته طريقة في العيش والتبصر المستمر.

في الحلقة الثانية وموضوعها "لماذا أصبحت علاقتنا هشة؟" يستعرض الكاتب والمترجم المصري كريم محمد مترجم كتاب حميميات باردة لايفا لوز مناطق يختلف فيها هول شان هال الفيلسوف الكوري الجنوبي مع ايفا لوز حول أسباب فشل العلاقات؟ هل هي كثرة الخيارات؟ أم أن السبب هو رغبتنا في البحث عن ذواتنا المتشظية بفعل الحداثة في الآخر، بدلاً من البحث عن تجربة وجودية مشتركة معه.

إذن ما الذي ينتظره مستمعو إذاعة سلطنة عمان العامة، ومنصة عين في الحلقات القادمة من البرنامج، حوارات مهمة حول ما إذا كان الاستعمار سيئاً حقاً؟ ما أهمية قراءة التراث اليوم، خصوصا التراث الأدبي العربي؟ كيف كُتب التاريخ العولمي للأفكار؟ كيف أسهمت الحضارة الإسلامية بدورها في الحداثة الأوربية، كيف تتدخل السياسات الدولية والاقتصاديات العالمية في ظواهر مثل الإرهاب واللجوء، ما أهمية المشي داخل المدينة، وما أهمية المكان في الكتابة الروائية العربية، ما المقصود بصراع الحضارات؟ وموضوعات أخرى عديدة، أسأل الله أن يوفقني في العمل عليها، وأن أتمكن من تأدية هذا الواجب أولا وخدمة المستمع الكريم بما يمكن أن يكون مفيداً، أو على الأقل ممتعاً. تتوفر كل الحلقات التي بثت حتى الآن على منصة عين التابعة لوزارة الإعلام، ويمكن الاستماع إليها في أي وقت. وهذه دعوة مني للمثقف العماني للاشتباك مع محتوى البرنامج سواء بالمشاركة المباشرة في حلقاته أو تثوير الأفكار الواردة فيها والجدال بشأنها، بهذا التدافع يمكن أن نجد أنفسنا أمام أسئلتنا الشخصية، وأهدافنا التي ينبغي أن نعرف ما هي ولم نريدها هي دون غيرها.