فَرْضْ..
15 أغسطس 2025
15 أغسطس 2025
يبدو أن حقيقة «الفرض يقابله رفض» غير منكورة، ولماذا يكون الأمر بهذه الصورة المتصادمة؟ لأن الإنسان مجبول على توظيف حريته الكاملة دون تدخل من أي طرف، ومعنى هذا أن مجموعة الفروض المطالب بها الإنسان تنفيذها، أو قبولها دون مقاطعة هي يقينا تحد من هذه الحرية، ولا تتيح أصلا أي نفس يعارض حقيقة وجود هذه الفروض في حياة الأفراد؛ ولذلك يعد الفرد المستسلم للفروض، أو ينظر إليه على أنه خاسر على طول امتداد الخط الأفقي لفهم الناس لمعنى الفرض، وإن كانت الحقيقة غير ذلك تماما؛ لأن مجموع الفروض التي يراها البعض على أنها مقيدة للحركة والحرية في الأساس وضعت لأن تخدم الجميع دون استثناء، وتعود بالنفع الأكبر على الممتثل للأمر والنهي دون مقاطعة.
وهنا قد ينشأ صراع محتدم بين الصدق -وهو الفرض- والكذب - وهو الرفض-، وبين الأمانة -وهي الفرض- والخيانة -وهي الرفض-، وبين الحق والباطل عموما. والأمر اللافت هنا أكثر أن من يمتثل لأحد النقيضين، وتتوغل القناعة بعوائدهما لكل طرف لما يؤمن به يبقى ليس من اليسير التنازل عما هو مقتنع به، وكل طرف يرى أن عوائده هي الأفضل، مع العلم أن عوائد كل طرف ليس يسيرا تحققها دون أن يدفع ضريبة ما؛ انعكاسا لما هو عليه، سواء أكان في طرف الفرض، أم في طرف الرفض. وهذه المسألة وجودية، وليست مرتبطة بزمن دون آخر، أو ببيئة دون أخرى، أو بديانة، أو عرق، أو لون؛ فجميع البشر متساوون في ذلك، وإن تناءت بهم الجغرافيا، وتباينت بينهم الثقافة، وتمايزت بينهم خبرة الحياة، ومستويات الأعمار، ولكن هل تفرض ظروف الحياة اليومية واقعا مربكا لأحدهما فيتراجع مطلقا، أو يتراجع ويعود إلى مربعه الأول؟ هنا المسألة تحتاج إلى كثير من المتابعة والتيقن؛ لأن هناك حالات من الصحوة تنبت بين جوانب شخصية الإنسان، فتربك مساراته المعتادة، وهذه الحالات قد تعيده إلى مسارات أكثر أمانا، وقد تغرقه في وحل من الطمي الموغل في السواد.
يقول أحدهم: «الشيء الأكثر إزعاجا في الحياة هو أن الشخص الصادق يخسر دائما في صراع الكلمات؛ لأنه مقيد بالحقيقة، بينما الشخص الكاذب يمكنه أن يقول أي شيء»، وفي ذلك حكم مطلق لحقيقة النقيضين بين الفرض والرفض. وفي تقديري الشخصي أرى أن الرفض هو هروب عن مواجهة الحقيقة؛ لأن الحقيقة أمر له ثقله في موازين الحياة، وليس كل إنسان له القدرة على أن يكون مهيأ لأن يلتحم مع الحقيقة ويكون جزءا منها إلا من اختصه الله بكثير من الهبات، والمواهب، وفي مقدمة ذلك كله ذلك السلطان الرائع، وهو اليقين بالله الذي إن استحوذ على نفسية الفرد كان له المقال والمقام. ومع أن اليقين مادة معنوية فطرية في النفس البشرية، إلا أنها تحتاج إلى كثير الامتثال لأوامر الفرض؛ حتى تتأصل أكثر، ويتعزز وجودها داخل النفس البشرية. ويبدو أن أغلب حالات الارتباك التي يعيشها الفرد، فلا يستقر له قرار، ولا يؤول إلى مآل هو تذبذب اليقين بين جوانب نفسه؛ ولذلك يمكن القول: إن الناجحين في شؤون حياتهم اليومية هم الأكثر يقينا بقدرة ذواتهم على صناعة حاضر أفضل، ويظل أعلى وأغلى يقين هو اليقين بالله، وأمره النافذ في كل شيء، وعلى كل شيء.
يتيح الفرض للإنسان أن يمتحن ذاته؛ لأن الفرض -كما جاء أعلاه- يحد من حرية الإنسان، ولا يعطيها الضوء الأخضر؛ لأن تبحر نحو المشرق والمغرب، وإنما وفق مسارات محددة. ويقينا أن المسارات المحددة هي منغصات للنفس؛ لأنها تتصادم مع الرغبات والأهواء.
