غزة... المقاومة والكتابة

09 يناير 2024
09 يناير 2024

عتبة...

مثل يقول: «مَن بيده القلم، ما يكتب على نفسه الشقاء».

(2)

ماذا تفعل الكتابة في الحياة؟

أو ماذا على الحياة أن تفعل في الكتابة؟

لا تفعل الكتابة ما يفعله الاحتلال.

قد تفعل الكتابة ما يفعله الاحتلال.

يترك الاحتلال فينا ذهولا وخضة عنيفة، وآثارا مدمرة لا تغادرنا بسهولة مع الوقت.

عن أيّ وقت أتكلم؟ في اليوم السابع من الشهر العاشر جرى خضّ عنيف لأذهاننا وذاكرتنا ومشاعرنا وهيكلة دروسنا عن التاريخ. كتب الفيلسوف (جيته): «من لم يتعلم دروس الثلاثمائة سنة الأخيرة سيبقى في العتمة». هل مررنا بسنوات الثلاثمائة في العصر الحديث؟ وتارة أخرى ينعت بعصر ما بعد الحداثة! نسأل غالبا: من كتب التاريخ؟ يأتي الجواب: القوي هو مَن يكتب التاريخ. القوي المنتصر والغالب دوما في أكثر المعارك؛ وحده يكتب التاريخ. الفيلسوف نيتشه كتب يوما قائلا: القوة معرفة، والمعرفة قوة. من يملك المعرفة / المعلومات، يستطيع أن يكتب التاريخ، وأن يُصيغ الجغرافيا، وأن يدفع بالفلسفة والمنظرين والتنويريين والعلماء للنظر في مقومات الحياة.

كم يوما مضى منذ تاريخ اليوم السابع في الشهر العاشر؟

بعد مضي زمن لا قياس له مع عدد الشهداء الذين يرتقون كل يوم إلى السماء عند مليك مقتدر، ومع عدد المشرّدين والمصابين، ومع عدد الذين ما زالوا تحت الأنقاض في غزة، نجد أنفسنا نهتم بالبحث في أبجديات التاريخ الذي كُتب، ولماذا حدث طوفان الأقصى؟ وماذا أخفى وراءه من سطور عن الآخرين الضعفاء والبسطاء والمسالمين والمقهورين والمعذبين في الأرض؟

أيقظت فصائل المقاومة الفلسطينية في صباح يوم 7 أكتوبر 2023م، العالم جميعه على عملية طوفان الأقصى. وتفيد مواقع الأخبار وتبادل المعلومات أن العملية جاءت كرد على «الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المسجد الأقصى المبارك، واعتداء المستوطنين الإسرائيليين على المواطنين الفلسطينيين في القدس والضفة والداخل المحتل».

قبل ذلك التاريخ كان العالم شيئا ما، وما بعده صار العالم كله شيئا آخر.

كنّا نستعد للخروج من البيت. لكن منظر غزة بشوارعها وبيوتها وساكنيها وهي تُدكُ بكل أنواع الصواريخ والدبابات والمسيّرات حال دون ذلك. مع الوقت الممتد منذ السابع من الشهر العاشر إلى اليوم حلّ بغزة كل أشكال الخراب.

اتجهت أنظارنا إلى شاشات القنوات الافتراضية والإذاعية نتتبع نشرات الأخبار، وأصوات المحللين السياسيين وغيرهم. كانت أصوات الغزاويات وأطفالهن تخترق آذاننا، كان وجعهن وأنينهن يمزق جوارحنا، ومنظر الجثث الملقاة على قارعة الطريق والرجال الملوثة أجسادهم بالوحل، وهم ينتشلون جثث أهاليهم تقطع نياط القلب. لقد قتل العدو كل مظاهر الحياة في غزة. لم يكتفوا بتدمير البيوت، وتشريد أهاليها ليختبروا تجربة نزوح قسرية أخرى نحو بلاد الشتات، لم يكتفوا بجعل أعاليها سافلها، بل تفننوا في سرقة المال والحلال والقبور وقتل الأطباء والاعتداء على الإعلاميين، وكل مظاهر الحياة.

(3)

المَوْحل والوحل

بتُّ أجهل الفرق الجيد ما بين الوحل والعُهر.

ارتبطت كلمة الوحل مع الكائن البشري. أما العُهر فلفظها لأول وهلة يأخذنا إلى عناوين في السياسة. يقولون: العُهر السياسي، لا الوحل.

الفقرة التالية مقتطعة من موسوعة الفلسفة، ويعود الكلام إلى مارتن هيدجر. «والإنسان بسقوطه في العالم يتميز بملامح رئيسية هي: الإغراء، الطمأنينة الظاهرية، مغايرة الذات، والموْحَل». يصعبُ تلخيص كل كلمة منفصلة عن الأخرى، فالكينونة في خطر، كذلك الأدب في خطر بحسب تزفيتان تودوروف.

يوضح هيدغر أن الإغراء هو أبرز ملامح سقوط الإنسان في الوجود. «لأن السقوط معناه أن يغري الإنسان بوجود الناس، ورفض الذات، والولوع بالثرثرة».

هل نملك مقاومة ما تبثه الشاشات وقنوات الأخبار وأبواق المحللين السياسيين والعسكريين حول ما يجري في غزة. أين تذهب ذواتنا؟ هل تدغم مع المجموع أم تنفلت إلى التيه والتشتت؟ في اللحظة الفارقة التي لا يسمع فيها الغزيون صفارات الإنذار، لكنهم يتلقون قذيفة مدمرة فوق بيوتهم ومحلاتهم، أين كنا نحن؟ أين سنكون؟ كيف كان استقبال الذات؟ كيف اشتكت أعضاء أجسادنا من بعضها؟

يواصل هيدغر: «وفي الثرثرة لا يهتم المرء بالموضوع الذي يجري الكلام حوله، بل يهتم بما يقوله الآخرون عن هذا الموضوع».

نحن بعيدون جدا كما تقول الجغرافيا هناك. قريبون أكثر في بوصلة القلب.

يقول المحللون الكثير من الكلام حول غزة، والصراع الدائر فيها. سيبررون الأطماع المادية في الغاز والمعادن وغيرها من المنافع. لكن الصراع الحقيقي هو صراع وجودي صرف. تعود إلى صدارة الأخبار، مسألة الصراع الديني مرة أخرى! نُشغل اليوم حول كلام الآخرين الجُّدد الذين وُظفوا ليحللوا الخراب، ويشرحون عن نفسية الإنسان المُقاوم، وعن تركيبة العدو.

(4)

يواصل هيدغر: «الطمأنينة تنشأ من كوننا قد استندنا إلى رأي الآخرين، فأشاع ذلك الطمأنينة في نفوسنا، لكنها طمأنينة ظاهرية فحسب، ولا تُرْضي ولا تُقنع».

يكسب الناشطون في محرك التواصل الافتراضي فعالية كبيرة. تختلط أصواتهم وتحليلاتهم بنداءاتهم وصراخهم وعفن بعضهم، فيتحول يومنا إلى سواد عظيم. نستندُ إلى آرائهم بهدف متابعة اليوميات الجارحة. كل شيء يستمر في غزة. القتل والإبادة وتشريد الناس، بحيث تتحول غزة إلى مكان لا يصلح للحياة. يختلط التحليل الثقافي مع السياسة والأنثربولوجيا والاقتصاد والتاريخ. تبرز «العنتريات» إلى جانب المتطرفين العتاة. تتأدلج ساحة الفرجة -فرجتنا البعيدة- عما يجري فوق أرض غزة من سحق ودمار وهلاك. يراد للكتابة أن تعود إلى مقدمة فعل المقاومة. هل تصلح الكتابة أن تفعل شيئا؟ هل تقدر الفنون أن توقف حرب الإبادة الضروس؟

تتأسس الكتابة لتسير في اتجاهات مختلفة نابعة من ظروف الحياة/ الكون المتجددة. لماذا لا يكون فعل الكتابة أشبه بمواجهة الاندثار؟ ثمة رؤى وتصورات حصلت للشعوب في العالم كله. لقد غير «طوفان الأقصى» عناصر حياتنا، وحساسيتنا وتلقينا ومعنى أن نكون بشرًا. تبلورت ألفاظ لم تكن قديمة في قاموس كلامنا اليومي المعيش، لكننا اعتدناها لتأخذ انتخابها نحو التكاثر: الخذلان، الذُّل، الهوان، الانكسار، الفنون، الاستهلاك، إما أن تجعلنا الألفاظ أكثر قدرة على التكاثر، أو نظل مع ماضيها نغرق وإياها في الوحل.

يواصل هيدغر: «والخاصية الثالثة هي مغايرة الذات، الناجمة عن توافقها مع العالم. إن الآنية قد قررت ضد نفسها بتوافقها مع الـغير، وبذلك فقدت إمكانياتها الصحيحة. لقد تخلت عن شخصيتها الحقيقية».

«فن التخلي» درس في التنمية الذاتية. فن التخلي عن ماذا؟ يقابل فن التخلي المطالبة اليوم بإعادة مفهوم التفاعل مع الأحداث، كحال ذلك الرجل غير الفيتنامي الذي ظل أيام حرب فيتنام، يقف خارج البيت الأبيض مع شمعة احتجاج على الحرب، موضحا سبب وقوفه الذي لا يغير في مسار الحرب على فيتنام شيئا كبيرا أنه لا يأتي لتغيير شيء، بل حتى لا يُغيروا منه شيئا.

عندما بدأ الناس يفكرون في مقاطعة البضائع والماركات الداعمة للكيان الصهيوني المُحتل لفلسطين، شكك الكثيرون في فعل هذه المقاومة ونتائجها على المدى البعيد، غير مدركين أولئك أن الشيء الثابت في هذه الحياة هو التعلّم والتغيير، وذلك لا يحصل ويتحقق إلا مع حدوث تطور في الوعي الإنساني السليم. هؤلاء الذين يقاطعون كأضعف وسائل الإيمان والاحترام والشعور بمعاناة الآخرين، جراء تكاثر الخذلان والخزي والعار، لم يفقدوا إمكانياتهم الصحيحة، ولم يتخلوا عن اختبار شخصياتهم التي تسعى كالقابض على جمرة من النار إلا التوافق مع إرادتهم الذاتية.

غير أن هيدغر في الخاصية الرابعة والأخيرة للسقوط، يواصل قائلا: «الموَحْل؛ أي الانغراس في وحل الآخرين». وانتهاءً مع الموحل تبدأ الكتابة لتواجه، أو تقاوم كل أشكال الانهيارات المتتالية. الذات الواعية تسجل موقفها، وإعادة النظر في المُسلمات المدرسية حول التاريخ والجغرافيا والحداثة التي تقتلنا، وانتصارات المقاومة في الأقصى تدفع أن يقف الإنسان وقفة ذلك الرجل أمام البيت الأبيض، لا أن يغير شيئا في مسار السياسة أو الحرب، بل كي لا يسقط في طمأنينة التحليلات الفاسدة، ولا يغرق في وحل الآخرين، فإن الله لا يُغير ما بقوم، حتى يُغيروا ما بأنفسهم.

(5)

«الحرب تثقل القلب» وخلف «غزة» تقف مقاومة العالم كله.