"غرفة تخصهن وحدهن"

11 أكتوبر 2022
11 أكتوبر 2022

تُرى ما الذي كان سيحدث لو أن لشكسبير أختا بموهبته؟ هذا ليس سؤالي، بل استفهام لطالما بُث عند الحديث عن كتابة النساء للأدب. منذ فرجينيا وولف وكتابها "غرفة تخص المرء وحده". أتذكر بهذا الصدد بعضاً من الأصدقاء اللاجئين الذين قابلتهم في ألمانيا في إحدى رحلاتي، عندما قالوا لي، إن الأمر يتطلب منهم على الدوام بذل أضعاف الجهد الذي يبذله الشخص العادي في موقفهم، إذ عليهم طيلة الوقت إثبات جدارتهم بـ "العالم الجديد" الذي سُمح لهم بالاستفادة من خيراته. تخيل أن تولد لتمارس هذا الدور طيلة حياتك، ليس هذا فحسب، بل في كل المرات التي تقارن فيها النساء بالرجال في كتابة الأدب، يتم تجاهل بنية المجتمعات التي حبست المرأة في دور محدد، فيما سمحت للرجل في المقابل بأن يختبر العالم. أفكرُ بدوري ترى ما الذي يقف وراء مزرعة أبي، التي يبدو لي أنها تحد العالم في قريتنا الصغيرة، لتحدد اتجاهاته وأبعاده، والفضاء الذي نتحرك فيه. تُرى لمَ لمْ أمشِ هنالك ولو لمرة واحدة وماذا لو كان لنا جيران في الجانب الآخر من "السيح" الذي يزدهرُ عاما بعد عام بالوافدين الجدد.

ككل الأوساط الثقافية، هنالك الكثير من النمائم التي يتم تدويرها بأقل جهد ممكن، كان نصيبي منها الكثير لكنني الآن أتذكر عندما قيل إنني أكتبُ كتابة "ذاتية" فحسب، يوم سمعتُ بهذه الملاحظة ضحكتُ كثيراً متسائلة هل هنالك كتابة "موضوعية" في المقابل؟ لكنهم عنوا بلا شك الكتابة التخيلية، التي تأتي آني آرنو الفائزة بنوبل للأدب هذا العام والتي أعلنت الأكاديمية السويدية عن فوزها قبل أيام، لتقول إنها لا تكتبها، مع أنها في الوقت نفسه، تُقر أن استقرار الكاتب على ما يظنه هويته، امتحان سيسقط فيه مع مرور الوقت، إذ يكبرُ مع الطريقة التي سيكتشف أنها الأفضل للتعبير في هذه اللحظة تحديدا. آرنو تكتب عن نفسها، حياتها، آلامها، الحب كما تعرفه والفضائح الصغيرة التي لا نستطيع الاعتراف بها في العادة. ولأن هذه الحياة تتموضع في التفاصيل الصغيرة، ينطلقُ السؤال الذي يأتي متردداً أمام سطوة اسم "نوبل للأدب" هل تكتب آرنو للنساء؟ هل كتابة آرنو نسوية؟

الأمر نفسه ينطبق على كاتبات من كل مكان في العالم. فروغ فرخزاد مثلاً، التي رأى النخبة وهم من الرجال "غالباً" أنها تقدم تصوراً شعبياً عن الحب، مما يجعلها مقبولة لدى النساء بشكل خاص، فالكاتبة المرأة لا تستطيع أن تخرج من هذه الدائرة، متناسين أن فروغ فرخزاد كتبت عن الحب بطريقة لا تقل سياسية عن التنديد بالبنى التراتبية في المجتمع، وأنها عبر "قلب الحديقة المتورم" أو التورط "ببداية فصل جديد للبرد"، كانت تفكك معاقل السلطة من الداخل، وأنها ضحت بكل شيء تقريباً لكي تفعل ذلك. وهو ما تكتبه فرزانة ميلاني في السيرة الذاتية التي روتها عن فرخزاد، التي لطالما أراد الرجال الوصل معها، لكنهم في المقابل وجدوا دورها الثقافي محدوداً، وأنها ليست سوى امرأة أخرى تكتب عن الحب وتبكي عليه. يقول إبراهيم كلستان الذي عاش معها قصة حب طويلة استمرت ثماني سنوات، أنه بغياب فروغ لم يفقد شيئاً فهي لم تكن تملك شيئاً غير الحماسة والمحبة!

ألا يذكر هذا بسيليفيا بلاث التي تشترك مع فروغ فرخزاد في أماكن كثيرة، الكآبة ومحاولات الانتحار الكثيرة، وتعرضهن للضربات الكهربائية أثناء خضوعهن للعلاج في المصحات النفسية، لكن ليس هذا ما يهمنا بالفعل الآن، المهم هو الاشتراك في اتهام بلاث بالهستيرية فحسب، ليس لديها هي الأخرى أكثر من انفعالها الذي يبلغ حدته القصوى في كل مرة مزلزلاً العالم من حولها. فما الذي تملكه بلاث أكثر من انتحارها؟ أكثر من بكائها على تيد هيوز؟ هل يمكن مثلاً أن نقرأ موضوعاً مثل "كيف تساعدك سيلفيا بلاث على فهم حياتك والاستمتاع بها؟" بلا شك لا تملك هذه الكاتبة الهسيترية أكثر مما نعرفه عنها بالفعل!

ثم هنالك صديقي القارئ الميل المستمر لأدلجة كتابة النساء فهي "نسوية" ويجب أن نضع في عين الاعتبار أن هذا المفهوم عادة يتخفف في هذه الحالة من حمولته الفكرية، ليقتصر الكتابة على أنها مشغولة للنساء متجاهلين بقصد كالعادة أن النسوية لديها مقاربة لكل شيء، وهي لا تعني "الأنثوي" وهي بلا شك تؤمن بصميمية أن "الشخصي سياسي". تُرى لماذا لا يُسأل كاتب "رجل" هل تكتب هذا الأدب للرجال؟ حتى عندما يكون أدبه ايروتيكياً أو متفسخاً، فهو في المقابل لا يجد نفسه مضطراً لسماع هذا النوع من الأسئلة.

في مقدمة رواية شغف بسيط لآني آرنو الصادرة ترجمتها عن دار الجمل يقدم إسكندر حبش آني آرنو بوصف كتابتها بالحميمية هذه الكتابة التي عرفت في فرنسا بأدب السرة، لاحتقار قيمتها التي لا تتجاوز حياة الكاتب الخاصة فهي لا تتناول قضايا كبيرة. ولا أظن بأنني أريد استدعاء "الكليشيه" الذي نردده منذ سنوات عن كتابة الكارثة والكتابة التاريخية في الأدب في مقابل الكتابة التي تتبع الإيماءات اليومية العادية، فكلما مضى الوقت تأكدتُ أن الأمر أعقد من هذه الثنائية وأنه متشابك ومرتبك، الأمر الذي يجعل الأدب بالفعل، مستقلاً في طريقته في التفكير بما يحدث في هذا العالم. إنه خارج عن هذه الأطر المحدودة، ومخترق لكل الحواجز وأولها "الأيدلوجية" كيفما كانت.