عيون رمضان ..بين التبذير والتدبير

04 أبريل 2022
04 أبريل 2022

جرت العادة في بعض مناطق ظفار أن يُطلق على المواد الغذائية الخاصة برمضان «عيون رمضان»، فيقال لمن جلب تلك المواد، أنه يشتري «عيون رمضان»، وكأن الصائمين سيبصرون بتلك الأطعمة بعد ساعات من الصيام في ظروف غير الظروف الحالية، وكانت تلك المواد الاستهلاكية بسيطة جدًا، خالية من البذخ والتبذير، ولكل لقمة أو شُربة مذاقها الخاص، بل من النادر أن تُرمى بقايا الطعام أو النعمة كما يطلقون عليها. لكن «عيون رمضان»، لم تعُد كذلك، بل صار من قلة القلة ممن لا يزال يحتفظ بهذه اللفظة، وحتى عادات رمضان طرأ عليها تبدلات وتغييرات، بل الأصح أننا نحن من تغيّر وتبدّل وليست العادات، ففي المنطقة الجبلية التي نسكنها، يتوافد الأهالي إلى مسجد الفرقة (فرقة صوب)، كان المبنى الوحيد المزود بمكينة توليد الكهرباء، قبل العام 1998، -عكس حاضرنا إذ يصل التيار الكهربائي إلى كافة مناطق ظفار- وعقب صلاة العشاء والتراويح يجتمع الأهالي في المركز، يتبادلون الأحاديث، ويتناولون الأطعمة المتوفرة، وإن كانت على بساطتها إلا أن قيمتها تكمن في مشاركة الناس في تناولها، فلا يبقى إلا الفُتات والنزر القليل من الطعام.

من يرى تزاحم الناس على الأسواق خلال شهر رمضان، وسلال العربات المملوءة بالأكياس، والصحون المتخمة بالأكلات، يشعر أن النزعة المادية تغلبت على روحانيات الشهر الفضيل، وجوهر الصيام والإحساس بحاجات الآخرين، واختفى واضمحل الشعور بجوع الجياع وظماء العطاشى، فالسوق أصبح يفرض نمطه الاستهلاكي، وهنا يقول زيجمونت باومان في كتابه (الحداثة السائلة): «إن مجتمع ما بعد الحداثة يُفعّل أعضائه باعتبارهم مستهلكين لا منتجين». وهذا ما نعيشه حاليًا في نمط استهلاكي يتحكم بنا ويُملي علينا شروطه، فوقفنا حائرين وعاجزين أمام حملات الإشهار والإعلانات المتكررة التي تخاطب غرائزنا لا عقولنا، لسلع لا نحتاج إليها بل ويمكن الاستغناء عنها بسهولة، لكنها الرأسمالية الجشعة التي يصفها زيجمونت باومان في كتابه المذكور، على لسان جيريمي سيبروك:« لم توصل الرأسمالية البضائع إلى الناس، بقدر ما أوصلت الناس إلى البضائع يومًا بعد يوم، إنها بعبارة أخرى أعادت صياغة وتشكيل طباع الناس وأذواقهم حتى صارت تتلاءم تقريبًا مع السلع والتجارب واللذات الحسية».

لقد أسهمت أدوات التواصل التي بحوزة الفرد في الإقبال على استهلاك المواد الغذائية في رمضان، خاصة مع دخول كاميرات الهواتف النقالة، وشيوع وسائل التواصل الاجتماعي كمنصات نشر، تنقل ما على موائد الآخرين إلى الفضاء العام، فصار تصوير الأطعمة أهم من متعة التذوق، وأصبحت الغاية من الوجبة، التباهي بها أمام عيون المشاهدين لا لسد رمق الجائعين، ولم يعُد مراعاة مشاعر المعوزين حاضرة في نفوس أغلب من يتباهى بسفرة طعامه.

لكن مع كل ذلك إلا أن مجتمعنا الخيّر أبى إلا أن يبادر إلى حفظ النعم والتقليل من التبذير والإسراف، فقد انطلقت بداية هذا الشهرالفضيل في مدينة صلالة، مبادرة حفظ النعمة بإشراف من فريق حياة الخيري التابع لنادي صلالة الرياضي، هدفها الحفاظ على الأطعمة عبر تجميعها من البيوت، وتغليفها وإعادة توزيعها على المستحقين، وقد أقيمت عدة نقاط لتجميع الأطعمة في عدة مناطق من مدينة صلالة، وقد انتشر في وسائل التواصل إعلان المبادرة، وقد تلمسنا العديد من المتطوعين سعيهم في الإسهام المادي والمعنوي.

إن مثل هذه المبادرات المجتمعية تُذكر للاقتداء بها وتُشكر على عظيم صنيعها، فعلاوة عن فعل الخير إلا أن حفظ النعمة لإيصالها إلى المحتاجين، تُعد قيمة أخلاقية ودينية، وخصلة تربوية تؤسس لسلوكيات حميدة في الأجيال والنشء، بالإضافة إلى قيمة المبادرة كعمل تطوعي يُعلي من الفطرة الإنسانية الصالحة المغروسة في نفوس البشر.