عن مكانة الكتب الصوتية

13 يوليو 2022
13 يوليو 2022

في زمن غابر، كان العلماء والمؤلفون منكبين على القراءة والمجالسة كمصدر للعلم، وكان تحصيلهم للعلم والمعرفة بقدر اعتكافهم وانكبابهم على المطالعة والقراءة تلو القراءة، وبالأخص أولئك العصاميون الذين لم ينهلوا العلم من عالم يجالسونه أو معلم يلازمونه. ومن كان ذا مال أو مقتدرا أو من أسرة ذات مكانة وثروة وعراقة، كان نهله للعلم أسهل مسلكا وأيسر طريقا، فلم يكن هؤلاء مطالبين بجهد مضاعف لطلب العلم وكسب العيش في آن. وقد لمع نجم كثير من عمالقة المعرفة العربية في سن مبكرة، بينما قاسى آخرون شظف العيش وقساوة الحياة وكأنها تمثُّلٌ محض للتراجيديا الإنسانية، ولكن هؤلاء وأولئك اشتركوا في كون العلم الذي ينهلونه -أيا كان مصدره ومورده- ملجأ لأرواحهم وجنة تنسيهم قسوة الأيام وتقلبات الزمان. وقد احترف غير واحد منهم مهنة يعتاش بها شريفة كانت أم وضيعة في أعين الناس، وعُرِف بها فيما بعد حين اشتهر اسمه وطار في الآفاق، كالزَّجاج النحوي الذي يورد ابن الأنباري سبب تسميته تلك في كتابه البديع نزهة الألباء في طبقات الأدباء حيث يقول «حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّد بْن درستويه النحوي، قَالَ: حَدَّثَنِي الزجَّاج، قَالَ: كنت أخرط الزُّجاج، فاشتهيت النحو، فلزمت المبرّد لتعلمه، وكَانَ لا يُعلِّم مجانا، ولا يُعلِّم بأجرة إلا عَلَى قدرها، فَقَالَ لي أي شيء صناعتك؟ فقلت أخرط الزجاج وكسبي كل يوم درهم ونصف، وأريد أن تبالغ فِي تعليمي وأَنا أشرُطُ أن أعطيك كل يوم درهما أبدا، إلى أن يفرق الموت بيننا، استغنيتُ عَنِ التعليم أو احتجتُ إليه، قَالَ فلزمته، وكنت أخدمه فِي أموره ومع ذلك أعطيه الدرهم، فنصحني فِي العلم حتى استقللتُ، فجاءه كتاب من بعض الأكابر من الصراة يلتمسون معلما نحويا لأولادهم، فقلت له أسمِني لهم، فأسماني، فخرجت فكنت أعلمهم، وأنفذ إليه فِي كل شهر ثلاثين درهما، وأتفقده بعد ذلك بما أقدر عَلَيْهِ. ومضت مدة عَلَى ذلك، فطلب عبيد اللَّه بْن سُلَيْمَان مؤدبا لابنه الْقَاسِم، فَقَال لا أعرف لَكَ إلا رجلا زَجَّاجًا عند قوم بالصَّرَاةِ، قَالَ: فكتب إليهم عبيد اللَّه فاستنزلهم عني، وأحضرني وأسلم إليَّ الْقَاسِم، فكَانَ ذلك سبب غناي، وكنت أعطي أبا العباس المبرد ذلك فِي كل يوم إِلَى أن مات» ص309-311ـ فنجد أن كثيرا من العلماء مع ما حووه من علم، اشتهروا بالمهنة التي امتهنوها أو امتهنها آباؤهم وأسلافهم، بل إن بعضهم عُرفوا باسم المهنة وإن لم يمتهنوها في الأصل، فنطالع في الكتب أسماء كالخياط والعطّار والصفّار والجزّار وغيرهم.

ومع تطور التقنية وتسارع الحياة، واشتغال الإنسان اليوم بعمل يأخذ جُلَّ وقته، صارت الفُسحة للقراءة أضيق وأشقّ، ولكن من محاسن العصر أن مصادر المعرفة اتسعت وتعددت. فيستطيع المرء أن يستمع إلى كتاب بأكمله وهو في طريقه إلى العمل، أو في طريقه الطويلة إلى المكان الذي يقصده، وتحررت الأشعار من الحبس بين دفتي ديوان فأضحى الاستماع إليها أيسر، بل وأعذب. ولشدَّ ما تمنيت أن تُسجَّل كتب العمانيين قديمهم وحديثهم وتُبث في الإنترنت. وقد استمعت إلى كثير من الكتب التي لم أجد الوقت لقراءتها، أو التي لم تسعفني الظروف لاقتنائها، وإن كان للإنترنت مثالبه، فإحدى المثالب يمكن أن تكون مزية، وذلك أن ما يبث فيه يبقى. وعلى سبيل المثال قام المجمع الثقافي بأبوظبي بتبني مشروع الكتاب المسموع، فتم تسجيل كتب كثيرة من بينها ديوان المتنبي، والأمير لمكيافيللي، والبخلاء للجاحظ، ومختصر كتاب الحيوان للجاحظ، وطوق الحمامة في الألفة والأُلَّاف لابن حزم الأندلسي، والإشارات الإلهية لأبي حيان التوحيدي وغيرها من الكتب.

ومن التجارب المضيئة في عُمان، برنامج دواوين الشعر العماني الذي يقدمه د.هلال الحجري عبر أثير إذاعة سلطنة عمان وهو عبارة عن مختارات من قصائد لشعراء عمان الفطاحل، كالستالي والكيذاوي وأبي مسلم البهلاني، ومشروع الكتاب الصوتي بمنصة «عين». وجُلُّ ما أتمناه أن أستمع إلى كتب أسلافنا العظماء، كالإبانة للعوتبي، والديوان الكامل لأبي الصوفي وحتى كتب الطب كتسهيل المنافع لابن أبي بكر الأزرق ومنهاج المتعلمين لابن عُميرة العيني الرستاقي.

فهل سنستمع يوما لأحد هذه الكتب أو لكتب مؤلفين عمانيين معاصرين ونحن في طريقنا في السيارة أو في رحلاتنا عبر الطائرة وفي غيرها من المواضع التي لا نقدر فيها على القراءة؟ ولكن يمكننا الاستماع فيها إلى الكتب، وأرى أن أهم ما يميز قراءة الكتب الصوتية وانتشارها بين الناس، أن تتماهى روح المؤلف مع روح قارئ الكتاب، فيخرج الكتاب إلينا وكأننا نستمع إليه بصوت المؤلف نفسه لا بصوت القارئ. و د.هلال الحجري مثال على ذلك، فشاعر مثله ينبغي أن يقرأ دواوين الشعر لأن الأديب يعرف مواضع الوقف والسكون والحركة والانفعال، فَيَصِل إلينا الشعر -مثلا- وكأننا نستمع إليه من فم الشاعر، فيولد ولادة جديدة ويُبعث من جديد، بصوتٍ عذب يخلو من رسمية النشرات وجفاف الأخبار.