على هامش الحوار

02 مايو 2023
02 مايو 2023

أثارني وبشكل خاص الحوار الذي أجرته «the Paris review» مع الكاتبة الحائزة على جائزة نوبل للأدب عام 2020 البولندية أولغا توركارتشوك، التي قرأتُ لها بعد فوزها أول عمل ترجم لها إلى اللغة العربية «رحالة» وكانت بالنسبة لي تجربة لن أتخطاها بسهولة، وربما تركت طموحا من نوع خاص لدي، يتعلق بالطريقة التي سأكتب بها كتابي في المستقبل. لذا أردتُ أن أحاور بعض الأفكار التي ناقشتها توركارتشوك مع محاورتها مارتا فيجلروفتش لمدة أربعة أيام في البيت الريفي الذي تعيش فيه أولغا برفقة زوجها.

أولغا توركارتشوك لديها نظرية حول القراءة. مفادها أن الأشخاص الذين لا يقرؤون كثيرا قبل سن 14 لن يطوروا المناطق التي تعالج النص إلى صور وتجارب بشكل كامل. فإذا أصبحت قارئا جادا في الجامعة، فربما تفسر كل شيء بشكل تحليلي. وأعتقد أن هذه الفكرة صادمة ومخيفة، إنها بطريقة ما تلغي قيمة الديمقراطية عن القراءة، كما أنها تتبنى موقفا يكرسُ اتجاهات ليبرالية حول الاستعدادات الأولى ليكون الإنسان الماهية التي يريدها لعيش هذه الحياة، إنها تضع حدودا حتمية صارمة، لطالما جنينا كبشر عواقب هذه الحدود ورسمها وإن كان في حقول وسياقات أخرى.

تجيب توركارتشوك حول تجارب القراءة الأولى بأنها قرأت الأساطير اليونانية والرومانية برواية يان باراندوفسكي باللغة البولندية، الأمر الذي جعلها وأختها مهووستين بفكرة اختراع الآلهة خصوصا للأشجار والمياه، لقد تواصل حدسها مع الوجود الإلهي في الطبيعة وساعدتها الأساطير اليونانية في تسمية الطبيعة وتبجيلها. كان والداها يعملان في تدريس الأدب، وتحتفظ أمها بالكثير من الأعمال الأدبية البولندية التقليدية وقد حثتها على قراءتها، لكنها لم تكن مهتمة بالأدب البولندي آنذاك. كان لوالدها طموح أدبي دفعه للاشتراك في المجلة الشهرية «الأدب في العالم» ومن خلال هذه المجلة كان لقاؤها الأول مع جابرييل جارسيا ماركيز.

في بدايات مراهقتها حفظت أولغا عن ظهر قلب أجزاء كبيرة من شعر تي سي اليوت باللغتين البولندية والإنجليزية حتى أنها تقول إن كتاب اليوت ثنائي اللغة لقصائده المختارة هو الكتاب الوحيد الذي سرقته من المكتبة في حياتها. قرأت بعد ذلك رواية «الصخب والعنف» لوليام فوكنر ومعها اكتشفت سرد تيار الوعي وفي عام 1975 صدرت أول ترجمة بولندية لكتاب سيغموند فرويد «ما فوق مبدأ اللذة»، كانت في الخامسة عشرة من عمرها آنذاك، وتركت أفكار فرويد لديها أساليب يمكن للمرء أن يفسر بها الأنظمة الخفية لمعاني هذا العالم، تلك التي توضح علاقتنا بأنفسنا وبواقعنا، وخلال أحد واجباتها في المدرسة الثانوية حاولت أولغا تطبيق أفكار فرويد على فوكنر.

أعتقد بأننا يجب أن نتوقف عند النفور من القراءة للأدباء القادمين من بلداننا في بداياتنا، لا بد وأن هذه ظاهرة منتشرة إلى حد ما، أنا نفسي كنتُ لا أقرأ لعمانيين حتى قبل خمس سنوات بل لم يكن لديّ فضول حول تجربتهم، الأمر الذي أعيش نقيضه الآن بتطرف، فأنا مهتمة بما يكتبه أبناء بلدي بصورة خاصة جدا، وبتفاعلهم مع هذه الحياة نفسها التي أختبرها هنا كل يوم. أحاول قراءة هذا الأمر وتفسيره، أولا لا بد وأن نزعة الحنين، أو لعنة الحنين لما هو بعيد هي سبب في ذلك، وهي سمة يتوفرُ عليها الكتاب والقراء عادة. أما ثانيها فقد ينطوي على ذلك مدى تقديرنا لهويتنا، الأمر الذي تسهم به وسائل الإعلام والتعليم في أوطاننا، إنه ذلك الشعور المتين بالارتباط الوثيق بأرضنا وشعبنا وبالاعتزاز بهذا، بعيدا عن الشعارات المليئة بالرطانة، أتحدث عن التواصل الحقيقي مع امتدادنا التاريخي ومع قصتنا كأمة أو كمجموعة في هذا المكان. وأظن بأن تدريس الأدب القومي الجيد في البدايات، وتعلم نقده، أو أيقنته بطريقة تصبحُ فيها هذه القصص أشبه بملاحم نفسر وننظر من خلالها للعالم، ويمكن أن تغير الكثير حول ارتباطنا بهذا الأدب.

حول بداياتها في الكتابة، تقول إن والدها دعمها بكل إخلاص، كان يكتب قصصها، عندما تمليها عليه، ولطالما شعرت بالحرج من أن هناك من يستمع إلى ما كتبته، ومع ذلك فقد فعل ذلك بوجه مستقيم ومؤمن بها. تُرى هل يؤثر ذلك كثيرا في إقبالنا على الكتابة وما سنكون عليه ككتاب؟ شعرتُ عند قراءة جواب أولغا هذا بأنني أرغب في سؤال كل كاتب عماني عن المرات الأولى التي كتب فيها، وعن حضور العائلة أو الأصدقاء أو غيابهم عن هذه المرحلة من حياة كل واحد منهم، وكيف يمكن أن يكون ذلك قد ترك أثراً ما في تجربتهم. كانت بدايات أولغا الأولى فانتازية، حيث القصص مليئة بالكلاب التي تحكم الأرض مثلاً، أما نحن فربما نميل إما للكتابة عن السحر أو عن الحبيب المنتظر، ولهذا بلا شك قراءات سيميائية يمكن أن تمنحنا نظرة على أنفسنا والمكان الذي نعيش فيه.

أمل السعيدية كاتبة وقاصة عمانية