عشيرة من الإنسان والحيوانات والأشجار

05 أكتوبر 2021
05 أكتوبر 2021

بدأت بقراءة «ماري أوليفر» في المختارات التي ترجمها للعربية عبدالوهاب أبو زيد وصدرت طبعتها الأولى منتصف هذا العام، مع دار صفحة سبعة للنشر والتوزيع بعنوان «مثل آدم في جنته» مدفوعة بإعجاب راسخ للمترجم، بعد أن قدم لنا ترجمة جميلة وعذبة للغاية لمارك ستراند في إصدار عسل الغياب.

يشير المترجم في المقدمة لعلاقة الشاعرة الأمريكية «ماري أوليفر» بالطبيعة، إذ غالبًا ما تتضمن قصائدها إحالات للطبعية باعتبارها مرجعًا أصيلًا، إما لزيادة التشابك الوجودي، أو لتبصره وكشفه ووضع اليد عليه، أو لإعتاقه وتحريره، وقبل أن أكتب عن استقبالي لهذه العلاقة في هذه القصائد، لفت انتباهي بداية الكتاب بقصائدها الأحدث فالأقدم، على غير ما اعتدناه عند قراءة المختارات الشعرية، ولهذا عواقب على القراءة، إذ يبدو أنك ترى الشاعر يتقهقر إلى الطفولة اللينة بدلًا من ملاحظة تطور القشرة الصلبة التي يحيط بها نفسه بالتجارب القاسية التي يعبرها جلده هذا، خصوصًا أنني رأيتُ هالة من الزهد في القصائد الأولى المنشورة في هذا الكتاب، فتساءلت كيف يصل الإنسان لهذه الدرجة في التصالح مع نفسه والعالم، حتى يُحس بأنه جزء من هذا العالم على الدوام، ينتمي لأرضه، وتموج روحه مثل البحر، والهواء هذا الهواء، من كلماته نفسها ومن عبوره الخاطف والقصير.

لكن يبدو أن زهد «ماري أوليفر» ليس نتيجة لتقدم الوقت، فلنتأمل مثلًا قصيدتها عن الانتحار، وعن الوضوح المباشر بين تمظهرات الطبيعة، وبين التفكير الداخلي للشاعرة، «حين في مكان ما الحياةُ/تتكسرُ مثل لوح من الزجاج،/ ومن كل جهة تجلب لك الأصواتُ/ العرضيةُ الأخبارَ،/ تقولين: كان عليّ أن أعرف ذلك./تقولين: كان عليّ أن أكون واعية بذلك. الجمعة الأخيرة تلك بدا/ مريضًا جدًا، مثل متسلق جبال عجوز/ تائه في المسالك البيضاء مستمعًا/ للثلج وهو يتكسر إلى الأعلى، تحت حذائه البالي. تقولين:/ سمعتُ شائعات عن متاعب، ولكن بعد كل شيء/ جميعنا نشكو من ذلك. تقولين:/ مالذي كان بوسعي فعله/ وتمضين/ مع الآخرين، لكي تدفنوه. تلك الليلة، تتقلبين في فراشك، لكي تشاهدي القمر وهو يبزع، ومرة أخرى/ كيف يبدو عملة معدنية صغيرة/ قبالة الظلمة، وكيف يكون كل شيء آخر/ لغزًا، وأنتِ لا تعرفين/ شيئًا أبدًا سوى أن/ ضوء القمر جميل -/ أنهارٌ من البياض تجري معًا/ على امتداد الأغصان العارية للأشجار - / وفي مكانٍ ما، لأحدٍ ما الحياةُ/ تصبحُ لحظة في إثر لحـظة/ أمرًا لا يحتمل».

هذه القصيدة من مجموعات «ماري أوليفر» الشعرية الأولى وقد صدرت عام ١٩٧٩ بعنوان من «اثنا عشر قمرا» وهذا الكتاب المترجم بين يديّ يبدأ بقصائدها المنشورة عام ٢٠١٥، وبذلك يصدق قول «كوندي ناست» أن شعر «ماري أوليفر» انشق عن كثب من الصخور والطيور والرخويات وشروق الشمس المذهل والحيوانات المتجولة والغابات.

إن علاقة «ماري أوليفر» بالطبيعة بدت مثل العقيدة الدينية، تتفق معي في هذا «كوندي ناست» وقد فسرتْ ذلك بأن «ماري» وجدت طريقة للعثور على النعيم من خلال الشعر في الهواء الطلق، مع تجنب الخوض في الحشود، والحداثة والاقتصاد وكل شيء صاخب آخر، تعاملت ماري مع سكان الغابات والمخلوقات البحرية كرموز دينية كما لو أنها تتعامل مع أصدقاء هادئين. لقد زودتنا «ماري» بحسب نيست بابتهالات لمحاربة الكآبة، إن قصائدها دعوة ضد الأنانية والتمركز حول الذات، وضد فكرة أن السلطة أو الذكاء ستجعلناك شخصًا أفضل من الآخرين. الإجابات التي عادة ما نسعى للإجابة عنها، فإن «أوليفر» تجد ضالتها عند البوم في وقت الغسق، في كلمات قصيرة مع شخص تحبه، في المد والجزر على الرمال، في مسارات الدببة، في تأمل الأوز البري.

توفيت «ماري أوليفر» عن عمر ناهز الثلاثة وثمانين عامًا، وكانت قد قضت معظم حياتها بالقرب من شاطئ صخري في ماساتشوستس، بصحبة شريكها المصور «مولي كوك»، عاشت حياة بسيطة للغاية، تمشي لمسافات طويلة عبر الغابة والساحل كل يوم تقريبًا.

وكانت «أوليفر» قد نجت من طفولة مظلمة كما يظهر ذلك في مقابلاتها إذ تعرضت للاعتداء الجنسي، هنالك كلمة مؤثرة قالتها الكاتبة «ناست» عن «ماري أوليفر» أنها تعاملت مع الحيوانات والنباتات وظهرت في قصائدها لا كأنواع منفصلة بل كأرواح عشيرة واحدة.

ربما يفسر ذلك إذن، ديوانًا كاملًا كتبته «ماري أوليفر» عن كلبها «أغاني الكلاب» وصدر عام ٢٠١٣، لم أشعر للحظة واحدة أنها تتعامل مع كائن من نوع آخر أدنى منها مرتبة، حتى أن مقطعاً ورد في قصيدة «رابسودي الكلب الصغير في الليل» بدا لي مناسبًا لمناجاة محبوب لا يفتقد للندية على الإطلاق تقول فيه «قولي إنك تحبينني، يقول لي./ أخبريني مرة أخرى./ هل يمكن أن يكون هنالك اتفاق أعذب من هذا؟ مرة بعد مرة، يتاح له أن يسأل/ ويتاحُ لي أن أجيب».

لعل هذا كله قادم أيضا من محبة وإعجاب «ماري أوليفر» بجلال الدين الرومي وقصائده فهي تكتب عنه، وعن استقبالها لغنائية كلماته، إن التفكير في هذا يجعلني أرتعد من قوة الأدب القادرة على أن تعبر حدود كل شيء، إنها شاعرة أمريكية عاشت وماتت في قرننا هذا في أمريكا، ومع ذلك تخطفها صلوات الرومي ونبؤاته.

كم هو سهل أن تشعر بأنك تصلي في جوقة «ماري أوليفر»، في قداس الطبيعة الكبير والغامر هذا، حتى أنك للحظة ستتمنى أمنياتها نفسها، خصوصًا عندما تقول في قصيدتها «دخول المملكة» من «ثلاثة أنهار كراس الشعر» الصادرة عام ١٩٨٠: «حلم حياتي/ هو أن أستلقي إلى جوار نهر بطيء/ وأن أحدق في الضوء الكامن في الأشجار - أن أتعلم شيئاً بألا أكون شيئًا/ لوهلةٍ قصيرة سوى عدساتِ الانتباه الثرية».

إنه حلم حياتي أيضا، ويعجبني تمثله عبر قراءة هذه القصائد، في غرفة فندقية، اختار كوب القهوة بلون أخضر، كما لو أنني حتى في صلابة مدينة كبيرة، أتلبسُ روح ماري عبر هذه الانتباهة الصغيرة والثرية، وبذلك يمضي الوقت بصفاء، مسلمةً بأنني كائن صغير في هذا العالم وسأعبره سريعًا لذلك فلتكن هذه السرعة رقيقة قدر الإمكان ومتأملة ومتواضعة، فأي خيلاء لجسد كجسدي أمام هذا الكون.