طوائف وعبادات جديدة

27 يوليو 2021
27 يوليو 2021

أتأملُ كثيراً في مجموعات تدافع عن معتقداتها عبر الانترنت، في عصر الروحانيات الحديثة، أصبحت المشاعر الدينية الطاغية مكرسة في اتجاهات جديدة. النباتي على سبيل المثال ليس أقل تعصباً من المتدين التقليدي، الناس تبحث عن القصص وتؤمن بها. وهنالك دائما مجموعة من الضوابط التي تحدد وجودك على سلم الانتماء للفئة التي أقنعتك قصتها، ومع هذا الهوس الذي ينطلق من فقر روحي بسبب طغيان المادة، تتعدد الطوائف والعبادات. الأمر الذي يجعلني أفكر في الإيمان بصفته غريزة، ينبغي أن يشغل حيزها منظومة ما ولا أدري إن كان لهذه الفكرة أصل، بالتأكيد هي كذلك لكنني حتى لحظة كتابة هذا المقال لم أقرأ في هذا.

ورغم أننا جميعاً نستهلك ما يبدو أنه مريح ويجعلنا نشعر بأننا قادرون على احتمال وحشة هذا العالم، إلا أن خطوة صغيرة فقط قد تجعلنا متطرفين. الأمر الذي يطلق عليه "زوي هيللر" في مقالة رائعة له بعنوان "ما الذي يجعل الطائفة عبادة؟": الغطرسة الفكرية، ويرى أن إحدى الطرق الممكنة لمواجهة غطرستنا الفكرية بشأن هذه المسألة هي تذكير أنفسنا بأننا جميعًا نتمسك ببعض المعتقدات التي لا يوجد دليل مقنع عليها. إذ إن "المعتقدات القائلة بأن يسوع هو ابن الله" وأن "كل شيء يحدث لسبب ما" أقدم وأكثر انتشارًا من الاعتقاد بوصول إيمي كارلسون المميز إلى البعد الخامس، لكن كلاهما في النهاية "ليس أكثر عقلانية من الآخر" على حد تعبير هيللر.

في العقود الأخيرة، ازداد إصرار العلماء على أن أياً من معتقداتنا، سواء كانت عقلانية أو غير ذلك، لا علاقة لها بالتفكير المنطقي. في كتاب ويليام بيرنشتاين "The Delusions of Crowds" المستوحى من كتاب تشارلز ماكاي الذي صدر 1841 "مذكرات الأوهام الشعبية غير العادية وجنون الجماهير" الذي رصد فيه اتجاهات قد تبدو غير متقاطعة حول دينياميكيات الحشود في الحروب الصليبية، أو الإيمان بمطاردة الساحرات، يستخدم برنشتاين دروس علم النفس التطوري وعلم الأعصاب لتوضيح بعض ملاحظات ماكاي، ويجادل بأن نزوعنا إلى هذا الشكل من الإيمان بشكل جماعي يتم تحديده جزئيًا من خلال ضعف قوي في القصص. يكتب "يفهم البشر العالم من خلال الروايات". "بغض النظر عن مدى تملقنا لأنفسنا بشأن عقلانيتنا الفردية، فإن القصة الجيدة، بعيداً عن القصور التحليلي، تظل باقية في العقل، وتردد صداها عاطفيًا، وتقنع أكثر من الحقائق أو البيانات الأكثر ميلًا إلى تغيير الفعل". يقول هيللر أنه ومن المهم ألا نفكر أن هذه القصص هي تلك التي ترويها الطوائف، بل حتى القصص بجميع الموضوعات القابلة للتصديق، حتى تلك المرتبطة بالمال. وحسب هيللر فإن عبارة برنشتاين "قصة جيدة" قد تكون مضللة؛ لأن الكثير من القصص التي يروجها قادة الطوائف سيئة إلى حد ما، بأية معيار أدبية تقليدية. وما يجعلهم قادرين على التأثير على الناس لا القصة بل الوعد فيها: إليكم إجابة لمشكلة كيف نعيش. أو: إليك طريقة لتصبح ثريًا. وجميع من يؤمن بوعد الطائفة هذا يصبح بدوره حلقة من سلسلة المحافظة على الكذب. وإن كنتُ لا أميل لاستخدام هذه المفردة في هذا السياق، إلا أن هيللر يقول من يدمج نفسه في فكرة جماعية يتعلم على الفور رفض شكوك الآخرين، واعتبار أي مشكك أحمق. وأننا لو قبلنا فرضية أن معتقداتنا متجذرة في ارتباطاتنا العاطفية لكان النقاش العقلاني قادر إلى حد ما على أن يكسر هذه التعويذة. وأن عقلنا غامض وبسيط إلى درجة أن حقيقة نتذكرها في المدرسة الابتدائية هي التي تفتح لنا التفكير في مسألة ما بإلحاح شديد. أن تفاصيل صغيرة حتى فيما نؤمن به ولا يمكن إخماده من قبل قادة الطوائف قد تجعلنا نتغير بسرعة لا نتخيلها، وأظن أنني مررتُ بأشياء كهذه، ولقد تعلمت أن أتواضع عندما يتعلق الأمر بالتفكير في ميول الآخرين ومعتقداتهم، لا أستطيع أن أقول بأنني نجحت في هذا تماماً، لكنني على الأقل لا أتذكر يوماً طالبتُ فيه بمصادرة رأي أحد، حتى أولئك الذين أختلف معهم تماماً.

ديفيد هيوم بدوره يرى أن أسمى ما يسعى له الإنسان هو التعاطف، حتى وإن كان يمتاز بصفات سيئة، فهذا ما يروم إليه، وهو أكثر الكائنات التي تحب العيش في المجتمع، ومع أن أطروحة هيوم هذه فات أوانها، خصوصاً بعد الدراسات الحديثة التي تثبت أن الحيوانات هي الأخرى تعيش وفق منظومة مماثلة لهذه التي نعيش فيها، وأن هنالك إشكالاً للسعي للعدالة، والحداد، والذكاء الخاص، إلا أن حديث هيوم هذا يستدعي الاهتمام في عالم محتقن مثل عالمنا، فإذا كنا نريد التعاطف أولاً وأخيراً، ما الذي يجعلنا دوغمائيين وفاشيين ومستعدين لقتل الآخر وإقصائه لمجرد اختلافه عنا، أعرف بأن هذا الحديث قد يبدو ساذجاً في سياق ثقافة يترسخ فيها العنف، بل ويجد بعض من ينتمون إليها، هذا الكلام مرفوض قطعاً، ودليل على ميوعة هي من مخلفات الانتكاسة والتردي، المشكلة أن هؤلاء أنفسهم في سياقات أخرى يدعون دول العالم الأول لتقبل الاختلاف، خصوصاً مع صعود التيارات اليمينة هناك، وعنصريتها ضد المسلمين والعرب، وينكرون عليهم تقدمهم مع عدم صمودهم أمام مسألة بديهية مثل التعددية داخل المجتمع، تذكرت رواية استسلام لميشيل ويلبيك، ولا يصح أن نقرأ هذا العمل بصوابية سياسية، فكثيراً ما يتم تقديمها باعتبار أنها تجسيد للإسلاموفوبيا، أجد هذا العمل مهماً وجميلاً، موضوعه هو وصول الإسلاميين للحكم في فرنسا، الأمر الذي جعل ويلبيك متنبأ بواقع قد يتحقق قريباً، فأعداد المسلمين في تزايد مستمر خصوصاً في ظل أزمات الشرق المتوسط المستمرة والتي لا شك لدينا في مساهمة دول العالم المتقدمة نفسها فيها.

وإن كان هذا الخطاب بسيطاً فلعله يوقظ في ذهن القارئ، فرصة للتفكير ملياً في الأمر، وفي ضرورة احترام اختلافنا، وأن ما تدعو لإقصائه اليوم قد يمتلك القدرة على إقصائك غداً، وأن الحوار مهم والجدل ضروري لتدافع الأفكار وهو صحي للغاية، وإسكاته يعني بالضرورة ركوداً فكرياً ومناخاً مريراً للعيش.