سينما 2022 الجزء (١)
على مدى حلقتين سأقدم سردا مبسطا لأهم الأفلام السينمائية التي أنتجت عام 2022 وفازت بأهم الجوائز في أهم مهرجانات السينما العالمية.
"ضوضاء بيضاء"
انتهى العام الماضي مع بث واحد من الأعمال السينمائية المنتظرة لعام 2023، "ضوضاء بيضاء" المقتبسة عن رواية بالاسم نفسه للكاتب الأمريكي دون ديلييو، والتي ترجمت عبر دار التنوير للمترجم يزن الحاج. وقد كان انتظار هذا الفيلم ملحا بالنسبة لمن أحبوا الرواية، إذ إن دون ديلييو يعتمد فيها على النثر الغنائي منذ السطر الأول وحتى الأخير فكيف يمكن تحويل العمل الأدبي هذا إلى عمل سينمائي. نجح المخرج نواه بومباك في تأليف السيناريو والإخراج عبر تقديم عمل يحاكي تلك الغنائية من خلال الصورة السينمائية، ففي كثير من المشاهد الجميع يتحدثون مع بعضهم البعض، حول موضوعات تتقاطع أحيانا ولا تتقاطع في كثير من الأوقات. فيصدر ذلك الضجيج الحي الإيقاع نفسه الذي حمله العمل الروائي. وتحاكي هذه الرواية ثيمة الستينيات في أمريكا وانهيار الحلم الأمريكي. من بين أعمال عديدة شكلت هذه المرحلة من الأدب الأمريكي. وينجح آدم درايفر في تقديم دور الأب الذي ينتمي للطبقة المتوسطة الأمريكية ويتخصص في دراسات هتلر في تقديم دوره، واحدة من أبرز المشاهد هو ذلك المشهد الذي ينكر فيه درايفر اقتراب موجة من السموم الكيميائية صوب الحي الذي يقطن فيه مع عائلته.
"جنيات ايديتش"
يعتبر هذا الفيلم أهم عمل بالنسبة لي لعام 2022 وهو من كتابة وإخراج مارتن ماكدونا ويقدم من خلاله قصة يحركها حدث صغير، وهو قرار يتخذه صديق بالتوقف عن ملاقاة صديقه المقرب جدا، وذلك لأنه يريد من الحياة ما هو أكثر من تلك الأحاديث اليومية العادية، لقد قرر ببساطة أن يصبح خالدا عبر الموسيقى والفن. وبدلا من اللقاءات اليومية الساذجة والتي لا تفتح أفقا بينما الإنسان يتقدم كل يوم نحو الموت عليه أن يتعلم ويؤلف الأغنيات الخالدة. نعيش أحداث هذه القصة في إحدى القرى الإيرلندية الصغيرة، التي يعرف الناس بعضهم البعض فيها. إنه فيلم عن خشية الموت، والرغبة في الخلود. يقدم عبر تصدع علاقة متينة، يستعد أحد أطراف هذه العلاقة للتضحية بنفسه في مقابل أن يخلد لا أن يعيش الحياة اليومية فحسب. فيلم حزين للغاية، ولكنه معزٍ في الوقت نفسه.
"مثلث الحزن"
يعتبر هذا الفيلم تنويعة أكثر ثراءً من وجهة نظري لفيلم "طفيلي" الكوري الجنوبي الذي حصد جائزة الأوسكار عام 2019 إذ يتماس الفيلم الذي كتبه وأخرجه روبين أوستلوند مع عدم المساواة والفروق الطبقية الهائلة في مجتمعات اليوم. ينقسم الفيلم إلى ثلاثة أجزاء. الجزء الأول عبر موعد بين حبيبين، يدفع الرجل الحساب بينما المرأة هي من دعت شريكها لهذه الأمسية، ليتفجر حوار عن علاقتنا الحساسة بالمال، وكيف ننظر للآخرين وأنفسنا فيما يتعلق به. الحوار بالغ الشفافية، زجاجي ينقل عبر الغضب والصمت والكلمات وردات الفعل مهما اختلفت، أوضاعنا المختلفة في حرجنا من الحديث عادة عن المال.
في الجزء الثاني من هذا الفيلم نشاهد يختا ضخما في رحلة لأثرى شخصيات العالم، وعبر هذا اليخت نفسه نلاحظ التقسميات الطبقية، فحتى تحت الخدم المباشرين لركاب اليخت هنالك طبقة دنيا عادة ما تكون من الملونين، المكسيكيين والسود والعرب. ينجح المخرج في تقديم هذا الموضوع القاتم جدا بطريقة كوميدية ساحرة، - بصدق لا أظن أنني ضحكت قريبا على فيلم كوميدي كما حدث معي عند مشاهدة هذا الفيلم المتقن.
في الجزء الثالث يجد بعض ركاب هذا المركب أنفسهم في جزيرة معزولة، وتبدأ السلطة في الاختلال، وفي تكوين طريقها من جديد، عبر من يتحكم في الموارد حتى وإن كان في السابق في نهاية الهرم الاجتماعي، فالعزلة القسرية تفرض شروطها عليهم، ونبدأ في النظر في إمكانية تكوين مجتمع أمومي بعد المجتمعات الأبوية. الحوارات والتصوير يخدمان سخرية المواقف التي يرصدها هذا الفيلم. كان أحد أبرز المشاهد بالنسبة لي، عندما وجد قبطان المركب نفسه مسجونا مع أحد الأثرياء، الأول ماركسي، والثاني رأسمالي متطرف.
" قرار المغادرة"
تقدم سينما كوريا الجنوبية أعمالا لافتة كثيرة في هذه الفترة، أحدها كان هذا الفيلم للمخرج بارك تشان ووك والذي فاز بجائزة السعفة الذهبية لأفضل إخراج في مهرجان كان السينمائي عن فيلمه هذا. يقدم الفيلم قصة بوليسية، إذ يبحث محقق عن مرتكب جريمة قتل، تمثلت في سقوط متسلق جبال من أعلى قمة جبل. الأمر الذي اعتبرته الشرطة حادثا فحسب. لكن المحقق يذهب لما هو أبعد ذلك. يقدم لنا الفيلم الهشاشة أمام صلابة الواقع الذي تمثل في شخصية زوجة الرجل الميت، وهي امرأة صينية تبين أن وجودها في كوريا الجنوبي غير شرعي. كما يقدم لنا الفيلم عبر حكاية دافئة للغاية، الاعتماد على هشاشة المحب وعلى استسلامه لأحلامه وكآبته. ويقدم الفيلم في تصوير استثنائي، إذ نجد المحقق فجأة عنصرا في المشهد الذي تتحرك فيه المشتبه بها، بينما هو يراقبها في الخارج من خلال منظار. هذا المزج الرهيب بين الواقعية والمراقبة التي تتمثل ربما في السينما وفي الفن وفي الأحلام، يشعرك بأنك لست أمام فيلم جريمة تقليدي.
