سودانيات... يا «رَكْشَة» خذني إلى المركزي «1-2»

20 فبراير 2024
20 فبراير 2024

يقول الشاعر السوداني الراحل إدريس محمد جمّاع:

إنّ حظّي كدقيق ٍ فوقَ شوكٍ نثروهُ

ثمّ قالوا لحُفاةٍ يومَ ريح ٍ اجمعوهُ

صعُبَ الأمرُ عليهمْ قلتُ يا قوم ِ اتركوهُ

إنّ من أشقاهُ ربِّي كيفَ أنتم تسعدوهُ؟

(1)

هذا عصر اشتباك المصائر بامتياز. يختلط في عصرنا هذا تجارب الأفراد مع الجماعات. وتختلف تجربة الفرد بما يتداخل فيها من قصص وحكايات، أو يمتزج الفرح مع الألم، أو الهناء مع الشقاء مع تجارب الآخرين، فتبدو الصورة الظاهرة أمامنا أقرب إلى المصير الواحد المشترك، حيث يخبو الأمل لدى الجميع، أو تجري استعادته بمجرد الكتابة عنه، فهل نشهد النهايات القصوى للتجربة؟

وإذ يتنوع مفهوم التجربة في ثقافة وقواميس عالمنا العربي من فرد إلى آخر، ونحن هنا نستخدمه بمعناه الإمبريقي فحسب، بالابتعاد عن معاني التجربة التي تتنزّل في قضايا الرؤيا والإدراك الروحاني لعلم التصوّف، يُمكن أن نسرد الكثير من القصص المتشابهة الناتجة عن أثر الحرب والهجرة لنساء سودانيات، تشابكت مصائرهن الفردية مع الأحداث المأساوية الحاصلة الآن في السودان.

كل امرأة تمتنع عن حكي قصتها فهي تسجّل وثيقة لانسحابها من الحياة. وكل صوت يحكي عن نفسه أو عن الآخرين الذين يُشبهونه في التجربة، فهو يضع التاريخ غير الرسمي في إطار منفتح على تجارب الآخرين. أترككم مع الصوت الأول، الذي سأتصرف فيه بالتعديل حسب حاجة السياق.

«بدأت قصتي في صباح يوم السبت تاريخ 15 أبريل 2023م عند التاسعة صباحًا. كانت إجازة رسمية عن العمل... عندما كنت جالسة مع أطفال أختي في تلك الفترة؛ بحكم أنّها في رحلة عمل... فجأة سمعنا أصوات رصاص متقطع، قد راودني شعور في تلك اللحظة لم أشعر به من قبل... في العادة ومن الطبيعي جدًا أن أسمع صوت إطلاق نار! لكن في هذه المرة، لم يكن كالمعتاد سَماعه، ولم أفهم في حينها ما الذي يحدث؟ في الحال أخذتُ أتصفح في السوشيال ميديا، وكانت الفاجعة أن هناك اشتباكًا يحدث ما بين الجيش وقوات الدعم السريع... وقتها لم أطمئن بتاتا، وشعرت أن هناك شيئًا غير طبيعي يجري... فجأة عَمّ الهدوء في أرجاء المنطقة مع استمرار إطلاق النار بكثافة، وأنا ما زلت رهينة ذلك الشعور. بدأت دموعي بالانهيار وأفكار حول بداية الكارثة. أطفال أختي كانوا حينذاك في المدرسة، فذهبت لإعادتهم إلى المنزل. وفي طريقي صَدقت أفكاري التي داهمت عقلي فور رؤيتي الجيش منتشرًا بصورة ليست كالمعتاد، والشوارع كأن لم تطأها قدم من قبل، تحول لون السماء من سماء زرقاء إلى سواد لم أره يوما قط، وهزة أرضية مرعبة.

أخذت أبناء أختي من المدرسة، وعدنا إلى المنزل. اتصلت بأهلي وطلبت منهم العفو والسموحة؛ لأننا لم نكن على ما يرام. في تلك اللحظة كان المبنى يهتز بنا، وما إن هدأ الأمر، جلسنا نُطمئِن أنفسنا بأن الحرب لن تلبث سوى أسبوع واحد أو خمسة أيام على حد تفكيري بها، وأن الجيش سينتصر، لكن مرت الخمسة أيام بلياليها، وليس لدينا لا ماء، ولا كهرباء، ونحن صيام، بل لم نجد حتى ماءً للشرب. كان المعنى الكبير للحياة قد بدأ يتلاشى.

في صبيحة اليوم السادس ازداد إطلاق النار أكثر فأكثر، وصوت الطيران فوق رؤوسنا وأنا أنظر إلى خوف أبناء أختي في أعينهم. صاروا يأخذون الوسائد، ويضعونها على رؤوسهم، ويختبئون تحتها على أمل أن يحميهم ذلك من الرصاص. إن أكثر شيء كان يخيفني في تلك اللحظات المرعبة فكرة الاغتصابات التي قد تحدث في مثل هذه الأحداث، كنتُ أفضّل عليها الموت، فحدثتُ نفسي قائلة: يجب أن أتصرف بسرعة. كنت أقطن في مدينة تَبعدُ عن مدينة أهلي مسافة ساعة ونصف الساعة. فكرت أن نذهب إليهم بحكم أن منطقتهم كانت هادئة حينذاك. أخذنا نبحث عن طريقة خروج آمنة من تلك المدينة (وسط العاصمة الخرطوم) والذهاب إلى مدينة حيث يقيمون أهلي (أم درمان)، فخرجنا للبحث عن وسيلة نذهب بها، وما زالت الشوارع يعمها الجيش في كل أرجاء المنطقة، كما كان تفتيش المواطنين عند كل نقطة يرتكز فيها الجيش لم تكن طبيعية، لمجرد أدنى شّك كان يُقْبَض على أي إنسان، وأخذه دون معرفة مصيره.

مع الأسف الشديد لم تكن هنالك سيارات لتقلنا إلى حيث نريد، فعدنا أدراجنا إلى المنزل.

في المجمع السكني الذي كنّا فيه كانت هناك بعض المنازل التي بها مولدات كهرباء، فكنا نذهب لشحن هواتفنا لنظل على اتصال مع أهلي. أبناء أختي كان لديهم صديقتهم تقيم في الطابق الأول من المبنى نفسه الذي نقطنه.

قالت: تعالوا إلى منزلي؛ لأنّه في الطابق الأول وأكثر أمنًا، ولا تخافوا.

جلسنا عندها قليلا، ثم خرجنا للمرة الثانية للبحث عن استئجار سيارة تأخذنا إلى (أم درمان) فوجدنا وسيلة مواصلات صغيرة تدعى (رَكْشَة) - بالعامية السودانية-

قلتُ له: إننا ذاهبون إلى المركزي.

قال: سأذهب وآتي لأخذكم.

كان معنا زوج أختي الذي نحاول إقناعه أنَّه يجب علينا الخروج من هذه المنطقة في أسرع وقت ممكن، لكنه اعترض فلم يَكن يريد لا دعمنا ماديًا، ولا أن يأخذنا بسيارته! ظل في تلك اللحظة الحاسمة من الزمن يرفض الكثير من قراراتنا فاتصلتُ بأختي:

قلت: «إن لم يكن والدهم يريد إخراج أطفاله، فأنا سأذهب. هو والدهم في الأول والأخير ولا سلطة لي عليهم من بعده».

استطعنا إقناعه في آخر لحظة، فصعدنا إلى السيارة -كبارنا وصغارنا- ونحن نبتهل إلى الله العلي القدير أن يحفظنا من شرّ الطريق ويَحمينا. كان المنظر أمام أعيننا بشعا جدا؛ كانت جثث المواطنين والجيش ملقاة في أطراف الشوارع منتفخة، وكل مراكز الجيش في الخرطوم دمرتها قوات الدعم السريع، وكنا في كل منطقة نذهب إليها نرى الجيش وعَلَم السودان مرفوعا نزداد اطمئنانا أكثر فأكثر إلى أن وصلنا إلى «الكُبري» الذي يفصل ما بين المدينة التي نسكن فيها ومدينة أهلي.