سودانيات... «السَمْبِك»

13 فبراير 2024
13 فبراير 2024

تقول الشاعرة السودانية روضة الحاج:

«واحتجت أن ألقاك

حين تربع الشوق المسافر واستراح

وطفقتُ أبحث عنك

في مدن المنافي السافرات

بلا جناح

كان احتياجي...

أن تضمخ حوليَ الأرجاءَ

يا عطرًا يزاور في الصباح

كان احتياجي... أن تجيءَ إليَّ مسبحةً

تخفف وطأة الترحال...

إن جاء الرواح»

(1)

للحرب تجارها وكذلك لها ضحاياها.

حولنا الكثير من صور القتلى والجرحى والنازحين الذين اضطرتهم الحرب إلى الهجرة من أوطانهم، يحلمون إذا وصلوا إلى بلد المهجر أن ينجحوا في بناء ذواتهم أو تأسيس حياة ما، ثم ينظرون على نحو من الأنحاء إلى صور وطنهم الذي غادروه كَرها لا شجاعة ولا بطولة.

جاء في التقرير الإخباري ما يلي: «دفع استمرار الحرب في السودان، منذ نحو عشرة أشهر، آلاف الشباب السوداني للتفكير في المغامرة بحياتهم وركوب المصاعب بالهجرة خصوصا إلى أوروبا، بعدما قضت الحرب على أحلامهم، ودمرت منازلهم ومؤسساتهم التعليمية، وفقدوا مصادر رزقهم، وتضاعف قلقهم على مستقبلهم».

يستند التقرير إلى هذه الألفاظ: الحرب، الشباب، المغامرة، الهجرة، الأحلام، الفقد، القلق، ثم المستقبل. يُمكن بناء أفكار وتكوين سيناريوهات كثيرة تصلح لعمل فنيّ سينمائي أو مسرحي. على هامش هذا، أتذكر جملة قرأتها لوصف أطلقه الكاتب المسرحي النمساوي الساخر (كارل كراوس 1874-1936) الذي وثق حينذاك لصور الحرب الدائرة بين بريطانيا وألمانيا في عام 1914م، أنه كتب تحقيقا مسرحيا طويلا جدًا من (792) صفحة، أطلق عليه الوصف التالي للحرب: «الأيام الأخيرة للإنسانية»، ولا يقتصر التأثير والتوثيق والمعالجات للحروب المدمرة على الفن وحده، حيث أثبتت حياة البشر وانصهارها في التجارب الصعبة القاسية، قدرة الإنسان في الحياة والطبيعة على التوثيق. وإذا ابتعدنا نسبيا عن التقرير، ونظرنا إلى الخلف قليلا، فيما وراء تلك الألفاظ الكبيرة، لن نرى الأيام الأخيرة للإنسانية، بل التفكير بالحرب وبالعناصر والحيوات التي تتهشم من حولنا، وفي مشاعرنا وأفئدتنا!

من بين العناصر التي تباينت عندي تباينا شديدا هي صورة «السمبك» وهو مركب صغير مصنوع من البلاستيك يستخدمه المهاجرون للهروب من أوطانهم عبر المحيط، إلى البلاد الأوروبية؛ طلبا للحصول على لجوء سياسي بسبب طغيان الحرب، ويمكن أن يصعد على «السمبك» أكثر من خمسين هاربا، قد يصلُ بعضهم أحياء، وقد يموتون في المحيط تأكلهم حيتان البحر.

(2)

بدأت تسرد قصتها معددة فضائل السودان الذي تُحب وتهوى وتخشى عليه من الضياع.

قالت: «بسم الله الرحمن الرحيم... السودان معروف، وطن مليء بالخيرات والمقومات الطبيعية. ومن خلاله يمتد نهر النيل إلى مصر، حيث ملتقى النيلين في الخرطوم. وهناك مساحات شاسعة صالحة للزراعة، لكن اشتهر بزراعة الكركديه والصمغ والقطن. ويعرف السودان بأصله وطيبة شعبه؛ الشعب السوداني يتمتع بالعفوية وروح الدعابة. يحب الكرم والجود وإكرام الضيف، ويعد التواضع من القيم السودانية المهمة والشهامة والتضحية. وتشتهر نساء الشعب السوداني بلباس طويل مزركش بألوان يسمى الثوب السوداني والرجال الجلابية والسروال».

هل غيرت الحرب كل هذا؟ ورطت الحرب البشر جميعهم، وفككت حياة الناس إلى أقسام، كما كشفت عن الوجوه المستترة، والمتورطين في الجرائم.

قالت: «بسبب تردي الأوضاع في السودان مؤخرًا، هاجر كثير من الشباب إلى خارج البلاد بحثا عن لقمة العيش. بعد «الكورونا»، وسقوط البشير الرئيس المعزول عانى الشعب السوداني أكثر مما مضى، الأمر الذي جعل الشباب يهاجرون بحثا عن العيش».

كل امرأة تمتنع عن حكي قصتها فهي تسجل وثيقة لانسحابها من الحياة. وكل صوت يحكي عن نفسه أو عن الآخرين الذين يُشبهونه في التجربة، فهو يضع التاريخ غير الرسمي في إطار منفتح على تجارب الآخرين.

قالت: «أصبح الشاب يرى أباه يعمل ليلا نهارا، وأمه كذلك، ولا يستطيع تلبية الطلبات الأساسية والضرورية، ناهيك عن الكماليات الأخرى، مثلا يَجد أخته تريد تسديد قسط الجامعة، والأخرى قسط المدرسة، وأخاه مريضا مرضا مزمنا يريد علاجا شهريا مستديما. وتجد في المنزل الواحد يَسكن الجّد والجّدة، وربما العمة أو الخالة، هي أيضا تريد من يُعيلها. وتجد في بعض الأسر رب الأسرة جاءته المنية، وترك خلفه ذرية ضعفاء يريدون المعونة، ومن يعينهم في سد الرمق. أصبح الوضع الاقتصادي سيئا جدا؛ إذ شهدت البلد غلاء في الأسعار لم تشهده من قبل. يَفيق الشاب من غيبوبة ذلك الوضع، ويصبح يريد اللازم من الدفء والمأوى والضروريات، فيجد لا شيئا أمامه غير الهجرة».

التورّط في الحرب معناه أحد أمرين: الرغبة أو دون الرغبة. عند اختيار أحد الأمرين، وكلاهما مرٌ يستعيد المرء قدرته على الاختيار، إما النجاة مع أقل الخسائر، أو الفناء مع المجموع!

قالت: «الشاب يفكر بالهجرة بعيدا عن وطنه؛ بحثا عن حياة آمنة... بعض الشباب يريد الزواج، فيعجز من الشروط التعجيزية للزواج بحسب العادات والتقاليد في البلد... يسافر أو يهاجر ليجني المال الذي يساعده على الزواج، والعيش في رفاه. من ضمن أولئك الشباب هاجر أخي؛ لأنه سئم البطالة، وأنا تخرجتُ من كلية اللغات لكي أعمل وأُعين أهلي، ولكن دون جدوى. الآن ليس هنالك شغل لحاملي الشهادات، وليس هناك تعليم أو صحة جيدة، أصبح كل من يَمتلك شهادة يُقدم على طلب العمل في الخارج؛ لأن السودان الأجور فيه زهيدة... ومطالب الحياة كثيرة. ومن لا يمتلك شهادة بسبب وضعه المادي الذي لم يساعده على أن يدرس يهاجر عشوائيا عبر «السمبك»، أو التهريب عن طريق البّر لكي يهنأ بعيشة كريمة له ولمن يُعيلهم».

(3)

وجاء في التقرير الإخباري: «ويخشى خبراء من مخاطر الهجرة غير النظامية إلى أوروبا، واستغلال شبكات التهريب والاتجار بالبشر وفقدان السودان عقولا وأيادي عاملة تحتاجها البلاد لإعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد الحرب، وتمزق الأسر والتداعيات الاجتماعية المترتبة على ذلك».

كم تبدو هذه الجملة قاسية وعنيدة: «في مرحلة ما بعد الحرب!» إن ميادين القتال تتحول شيئا فشيئا حتى تصير أشبه بالمستعمرات الصغيرة، تغرق في وحل مليء بالجرذان. لا تهم الجملة في أي شكل من السياقات، إذا ما كانت الحرب قد قضت على البشر الحالمين بأدنى حد في الحياة. سيصنفها الخبراء مع مرور الوقت -المولعون بالتصنيف-، أنها حرب لأجل السلام! لا يهم عدد القتلى الضخم، من جثث ملقاة على الطرق منتفخة أو عائلات نزحت هروبا من الأسلاك الشائكة وأعاصير المجنزرات، بصورة لم يشهدها تاريخ في عصرنا المتحضّر!

قالت: «هذا الوضع كان قبل الحرب، أما في وقت الحرب فتفاقمت الأوضاع أكثر فأكثر؛ أصبحنا في حيرة من أمرنا: من كان يَعمل مقابل أجر زهيد أصبح لا يعمل، وقيل له مرحبا بك في رَكب العطالة! ومَن كان يقرأ، جلس في منزله مجبرا، وليس هناك إمكانيات تجعل المرء يعمل أو يَقرأ أونلاين، لم يبق أمامه إلا أن يهاجر. في الأول والأخير أنا شاهدتُ الحرب رأي العين... حضرتُ المقذوفات العشوائية، والدانات، والرصاصات الطائشة. ليس منا أحد ينتمي إلى طرفي النزاع».

(4)

فظائع الحرب أشد قتامة من الوصف. الدخول في التجربة وخوض مغامرة الهروب والهجرة وطلب اللجوء السياسي، ستظل محفوفة بالمخاطر والشراسة والتوحش. عندما يلتقي المهاجرون في شارع ما في دولة أوروبية، سيتحدثون عن تجربة المصير الجماعي... والبحث عن إقامة قانونية... وعن الوظيفة والعمل والبيت وتكوين عائلة جديدة. يغشى بعضهم الفرح، وغيرهم الألم والشوق إلى الوطن... وسيبقى الشعور المشترك بينهم، أنهم استطاعوا خوض تجربة العيش مع الموت والشجاعة في كفة واحدة.

وأخيرًا...

قالوا: «عائِدُونَ إِلَى سُودانِنا، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ».