سنفرح بفوزنا رمزيا أولا والباقي تاليا
11 نوفمبر 2025
11 نوفمبر 2025
تابعتُ، وملايين غيري حول العالم، فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، وهو فوز تاريخي إذ إنه أول مسلم وأول مهاجر يتولى هذا المنصب، كما حصل على أكثر من مليون وثلاثين ألف صوت بنسبة تقارب 50.4٪ من إجمالي مليوني ناخب تقريبًا، وهي أعلى نسبة مشاركة في انتخابات المدينة منذ عام 1969، ما يجعل فوزه حدثًا سياسيًا فارقًا في تاريخ نيويورك والولايات المتحدة.
اعتدنا على التورط في الانتخابات الأمريكية، من يُنكر علينا ذلك؟ وأمريكا تتحكم في الهواء الذي نتنفسه، وتقرر متى هو الوقت الملائم لتتبخر جثثنا، وما إذا كنا نملك الحق لندفن بقاياها. لكن هذه المرة مختلفة، حتى كتابة هذه الجملة الأخيرة تطلبت شجاعة كبيرة مني، يخشى الكثيرون أننا لم نكن نجري إلا وراء فوز رمزي، وأن هذا أقصى ما يمكن أن يتمناه اشتراكيّو هذا العالم والتقدميون فيه.
أشعر بأن التحقق حتى على المستوى الرمزي أصبح حكرًا على اليمين، حكرًا على إسرائيل بلا شك، فالقدرة على استبعاد أحد اللاعبين السياسيين، أو الدفع بآخر، والقدرة على السيطرة على الأكاديميا ومؤسساتها العريقة، النفوذ العالي في المؤسسات البرلمانية، التحكم بشركات الإعلام الضخمة، التحكم بهوليود مثلاً، وغيرها، فوز ينبغي أن يُحتفى به إذا كان إسرائيليًا فحسب، وينبغي أن يكون مهددًا إذا كان إسرائيليًا فحسب، ويحدث هذا ببساطة، لأن من يدير سلطة إعادة إنتاج هذا «الفوز» في المجال العام هي المؤسسات نفسها التي تدفعنا في الضفة المقابلة للخوف والتوتر، ودفن رؤوسنا تحت التراب والحرج بمجرد نيلنا للفوز نفسه الذي كانت تلهث لأجله ولن توفره ما إن تحصل عليه.
وكالعادة، تُنكر هذه المؤسسات، التي لن تستخدم الفوز حتى وإن كان رمزيًا لصالحها، أنها طوال فترة النزال كانت قد دفعت ملايين، وهو ما حدث في نيويورك ضد ممداني، لا للرغبة في الفوز المباشر بالانتخابات فحسب، بل لإهانة ذلك الرمز، لتحطيمه، لجعله جثة أخرى تتبخر، أن تُعلم الناس قدرهم، وأن تُريهم حدودًا صارمة لأحلامهم بعالم مختلف عن ذلك العالم الذي تدعي المؤسسة أنه الواقع الوحيد الممكن في ظروف كهذه التي نعيشها، أن تضيق علينا حدود هذا العالم كما نعرفه لا كما نتمنى أن يكون، أكثر فأكثر، إذ إن هذا الفوز هو إطلاق للخيال السياسي، وهو -كما كتبت كثيرًا في مساحتي الأسبوعية هذه- الحاجة الأولى الأهم، إن لم يكن الشرط الأكبر، لتحقق أي عدالة اجتماعية في المدى القريب من حياتنا.
ما يُضحك حقًا، أن الفوز الذي يُوصم بالرمزية يُقابله «خسارة رمزية»، أليس كذلك؟ لماذا تُوجع هذه الأخيرة إن كانت رمزية فحسب؟ إن هذا الادعاء، صدقوني، لا يتجاوز كونه محاولة المحتضر، لفظه أنفاسه الأخيرة بينما يصارع ذلك لكي يستل منا إيماننا بقدرتنا على تغيير هذا الواقع الذي نعيش فيه.
كنت عام 2021 في هانوفر بألمانيا، أستعد للذهاب لمهرجان فني يُقام كل خمس سنين في كاسل، ويشارك فيه العالم، وفي حفل الافتتاح، خرج الرئيس الألماني (بكامل قدره وجلاله) في خطاب، قرع فيه تنظيم المهرجان في كونه معاديا للسامية، وأن الأعمال المعروضة مخزية في تجسيدها لذلك، وأنه لن يكون هنالك تسامح على الإطلاق مع التلميح بهذا الإرهاب. تفاعلت المؤسسات الإعلامية مع الخطاب، كانت العادة أن يكون هناك اتحاد يشارك في كل دورة من المهرجان مع التنظيم الألماني، وفي ذلك العالم كان الاتحاد الإندونيسي شريك التنظيم، الذي عكس، وبطبيعة الحال، التزامه المطلق بالقضية الفلسطينية. علينا ألا ننسى أنه فعل ذلك بالفن أولًا وبالحد الأدنى من المواجهة ثانيًا، ومع ذلك زُلزلت الأرض يومها، ومُنعت الكثير من الأعمال في اليوم التالي، كنا في حالة غضب شديدة أنا وصديقتي، وقال لنا صديق ألماني حينها: «لكن الأمر مُعقد بالنسبة لنا أكثر مما تتصورون»، وأظن أننا «شخرنا» في وجهه آنذاك، بالطبع علينا ألا نتخيل ولا نتذكر أن هذا التصعيد كان تصعيدًا ضخمًا وعدائيًا لمواجهة «رمز» يوشك أن يتحقق أيضًا.
أريد أن أتنفس الصعداء كشابة في عمر ممداني، ولد لمهاجرين، ولأب اشتراكي قرأت له كتابه بالعربية عندما لم أكن أعرف أنه أب لشاب سيتحول من غناء الراب ليكون عمدة «أهم» مدينة في العالم، قائلاً وبلغة دقيقة بعد فوزه إنه سيعتقل «نتنياهو» إذا دخل لنيويورك، وهذه ليست «مسألة رأي» كما قال في مداخلة بعد الفوز مباشرة عند سؤاله عن ذلك، إذ إنه وفقًا للقانون الدولي والمحكمة الدولية كذا وكذا، فإنه سيعتقله حقًا. أريد أن أتخيل سائقي سيارات الأجرة، المستولين، الأقليات، اللاتينيين الذين اختطفوا من الشوارع بعد ترامب لإبعادهم لبلدانهم «الأصلية»، يحلمون بواقع آخر، أريد أن أبدي إعجابي الشديد بثوب راما، زوجة ممداني، على المنصة لإلقاء تحية ما بعد الفوز، المطرز بالغرزة الفلسطينية، يا الله ما أحلاه.
