سطوة الغيب

02 يوليو 2022
02 يوليو 2022

لأن ما يدور في الغيب محجوب عنا ولأن جميع حواس الإنسان قاصرة ومحدودة لا يمكنها الذهاب بعيدًا يظل عقله عاجزًا عن استطلاع ما يدور في مستقبله وتفاصيل ما يحمل له هذا المستقبل فيُصاب بالإحباط إذا ما مُنيت مخططاته وأحلامه بالفشل أو التعثر أو إذا ما أتت مخالِفة لتوقعاته وتصوُّراته.

وبين ما يُخطِطُ له الإنسان ويرغب في تحقيقه وما تُسفر عنه تجاربه الحياتية المعقدة توجد حلقة مفقودة وهي "الغيب" ذلك العالم الغامض الذي لا نعرف عنه شيئا.. عالم لا يمكن توقع ما سيأتي به خيرًا كان أم شرًا.

في هذه الزاوية ارتأيت أن أطرح موضوعًا أراه مُهمًّا في هذا التوقيت بالذات وهو "مفهوم المعدلات الدراسية" لدى البعض وربط ارتفاع هذه المعدلات وانخفاضها بمستقبل الشخص وجودة حياته.. بتحكمها في نوعية المنصب الذي سيتقلده وبقدرته المالية ومستواه المعيشي ورفاهية عائلته.

تُصاب الأُسر خاصة تلك التي تُعوِّلُ على أبنائها كثيرًا في تغيير واقعها بالخُذلان وهي تتلقى نتيجة ابنها أو ابنتها عقب امتحانات شهادة الدبلوم العام أو تُصدم بمعدله التراكمي عند التخرج بعد إكماله الدراسة الجامعية اعتقادًا منها بأن تلك النتائج هي من سترسم لهما ملامح المستقبل الوظيفي وأن أي نتيجة أو معدل غير مُرضٍ يعني انتهاء حلم التميز وتغيير الحال وكأن هذه الأُسر تملك القدرة على استشراف ما يجري في الغيب.

حتى نهاية الثمانينيات كانت نتائج الثانوية العامة -الدبلوم العام حاليًّا- تُذاع عبر الراديو ثم ترِدُ في اليوم التالي على صفحات الجرائد المحلية وكانت صور الأوائل العشرة من القسمين العلمي والأدبي على سلطنة عمان تتصدران الصفحة الأولى أي لم تكن النتائج سرية لا يمكن معرفتها إلا بإرسال رسالة نصية كما هو حاصل الآن.

أتذكر بعض أسماء ممن تصدّروا قائمة المتفوّقين من الشباب والشابات في سنة من السنوات من ولايتي وأتذكّر كذلك كيف كان حضور قدراتهم الذهنية حيث الدراسة تعتمد العام كاملًا والمنهج الكامل دون أي تقسيم ودون استخدام أدوات مساعد كالحاسبات الإلكترونية.. أتذكر كذلك قائمة أسماء طلاب التخصص بعد إنهاء الدراسة الجامعية وكيف كان ترتيبهم بحسب المعدل التراكمي.

في الحالتين أي حالة نتائج الثانوية العامة أو -الدبلوم العام- وحالة نتائج الدراسة الجامعية لم يكن المتفوّقون دائمًا هم مَن تولّى المناصب القيادية في مختلف الوظائف الحكومية أو وظائف القطاع الخاص بل العكس هو الصحيح تمامًا وذلك لأسباب ومعايير قد لا تتصل بالتفوّق والقدرات الذهنية إطلاقًا.

من هذه المعايير على سبيل المثال طبيعة الجهة التي يعمل بها الشخص ومقومات الفرد ومهاراته القيادية وفي أحايين أخرى وضعه الاجتماعي الذي يستثنيه دون غيره والعلاقات الشخصية وأُمور أُخرى مستترة.

ورغم قناعتي بأنه لا ينبغي أن نتشنّج كثيرًا ونكتئب لأن بعض أبنائنا لم يحقق ما كنا نطمح به فلا يعني ذلك أيضًا أن ندفع بهم للركون إلى الخمول وانتظار ما سيأتي به الغيب، بل لا بد من حثهم على الاجتهاد والتحلي بروح المنافسة.. أنا أقول إن على الأسر أن تؤمن إيمانًا عميقًا بأن ما حصلت عليه هو رزقها وأن الأرزاق بيد الله يوزعها كيف أراد، يعطيها من يشاء، ويمنعها عمّن يشاء، وذلك لحكمة يعلمها هو.. أن نقتنع جميعنا أن الخير كل الخير فيما أراد الله سبحانه وتعالى إن أعطى أو منع.

وحتى لا نضيع في دائرة المقارنة المُفرغة والإرهاق الذهني لنتذكر دائمًا من باب الحكمة أن من خلق الغني والفقير والجميل والقبيح والمرموق والمبتذل والمتنفذ ومن يعيش على هامش الحياة ربٌ واحد والجميع أمامه متساوون ورغم أن البعض بفكره الضحل يرى أن هذا التوزيع إقصائي "غير عادل" لكن الحقيقة أنها العدالة بعينها لأن المعيار هنا هو "الابتلاء" وليس الاصطفاء أو المحبة أو أي شيء آخر.. نحن نرى ما تراه أعيننا فقط وهي الصورة لكننا لا نرى ما خلفها.

نقطة أخيرة

يا لهذا الإنسان الشقي ما إن يخرج من حرب ضروسٍ يعتقد أنه انتصر فيها حتى يدخل في أُخرى مستميتًا من أجل العثور على ما يعتقد أنه "الراحة"، نسي هذا المخلوق التعِسُ أنه لا وجود في الدنيا لشيء اسمه الراحة.