ريش لامرأة فقيرة

21 يونيو 2022
21 يونيو 2022

تمكنتُ أخيرًا من مشاهدة فيلم "ريش" الفائز بالجائزة الكبرى لمسابقة أسبوع النقاد الدولي في الدورة الرابعة والسبعين من مهرجان كان السينمائي لمخرجه عمر الزهيري. وهو الفيلم المصري الأول الذي يحوز على هذه المكانة. وبقدر الطابع الكافكاوي المشحون في الفيلم، في قدرة الكوميديا على أن تكون قاتمة، إلا أن الفيلم يطرح أسئلة عديدة عبر الشكل الذي قدم به، حول الفن، ما هو، وما إمكانياته، لا أعرف كيف يمكن أن أقول ذلك ببساطة وبشجاعة أيضًا، الفيلم جريء جدًا فما الذي يراهن عليه عمل، يعيد تكرار صورة قاتمة واحدة ولا يعتمد على تنويعات من البؤس، إلا أن هذا بالضبط ما يجعله ساحرًا بصورة خاصة، لقد شعرتُ وأنا أشاهده بأن الفيلم لن ينتهِ أبدًا. ربما لأن الحياة التي يقدمها لن تنتهِ أيضًا وستتكرر كل يوم بالخسارات والانهيار والتداعي نفسه.

هنالك تقنيات عديدة لا يمكن تجاوزها في هذا العمل، كأن تبتعد الكاميرا عن موقع الحدث، ونرى مشهدًا جانبيًا للمكان بدلًا من الصراع الذي يحدث في نفس اللحظة وفي نفس المشهد خارج إطار الصورة، كأن هذا العبث لا يهم كثيرًا، المهم ما سينتج عنه وهو مألوف ومتوقع، تُعتمد هذه التقنية في الكتابة الأدبية في الرواية تحديدًا لعل أشهر من عُرف عنه استخدامها هو التشيكي ميلان كونديرا. يعتمد العمل أيضًا على تأثيث العمل بالغبار والتراب، إنه في كل مكان، الفوضى تعم كل الأشياء، ويبدو ما يحدث اعتباطيا بصورة كبيرة، فالرجل يخرج الحلويات من صندوق السيارة المليء بالأشياء التي لا تشبه بعضها، وعندما يتصدق للمرأة المنكوبة بالمال، يعطيها إلى جانبه عطر التقطه من كومة الأشياء الملقاة هناك كيفما اتفق.

الفيلم يحكي قصة النساء في هذه المجتمعات، فيبدو أن حياة الأسرة المكونة من الأب والأم وثلاثة أبناء متدهورة للغاية فهم يعيشون في بيت ضيق ومحطم تقريبًا، ويبدو أنه في منطقة صناعية قديمة، الكثير من الأبخرة القادمة من نافذة المطبخ، التي يضطرون لغلقها وإلا لاختنقوا، ومع ذلك يبدو الأب مرتاحًا أكثر لطبيعة حياته، فها هو يقرر عمل حفلة عيد ميلاد لابنه، ويجلب زينة للبيت، تماثيل وأضواء في الوقت الذي لا يجد الناس مكانًا للجلوس عليه، يعامل زوجته كما لو أنها تعمل لديه، وهي لا تنظر في عينيه أبدًا، تذعن وتطيع الأوامر وتأخذ المصروف اليومي لشراء ما يلزم للبيت ويعد أبنائه بأنه بكل تأكيد سيشتري لهم ذات يوم فيلا تحتوي على مسبح. عندما يختفي الأب بعد أن يتحول لدجاجة، لا يتغير الأمر كثيرًا، فسواء حدث هذا أم لم يحدث، ستجد هذه المرأة نفسها في الموقف نفسه، تداعي كل شيء من حولها، نعرف هذا من الإنذار الذي يصل للبيت قبل حفلة عيد الميلاد وتحول الأب لدجاجة إذ أنه لم يتم سداد إيجار الشقة لشهور طويلة بالإضافة لاستدانته من مكان عمله.

تحاول هذه المرأة أن تعمل مكان زوجها لسداد القروض وتلبية احتياجات الأولاد، إلا أنهم يرفضون عمل النساء في المصنع ولا يمانعون على الإطلاق استبدال الأب بابنه الذي لا يتجاوز الخمسة أعوام. تتلقى المرأة المساعدة من شخص يظهر في حفلة عيد الميلاد والأب يستمر في مناداته بالباشا، ونفزع طيلة الوقت من دافعه وراء المساعدة، فيبدو أننا نحن المشاهدون أيضًا لا نستطيع أن نصدق أن يكون هنالك كل هذا الخير بدون مقابل. سرعان ما تتأكد شكوكنا مع مرور الأحداث، يجب على هذه المرأة التي استمرت في محاولة إيجاد الحلول مهما تعاظم الألم وتعقدت المشكلة أن تجابه حربًا أخرى.

تضطر المرأة لكي تعمل خادمة في أحد البيوت الأرستقراطية اللامعة، وأخيرًا مشهد واحد بدون غبار، أرض صقيلة، وتمثال يوناني وكلب من فصيلة مميزة، إلا أنها بالطبع ستضطر لمعرفة طولها والخضوع لفحص دم وفحوصات أخرى لكي تكون لائقة بتنظيف ذلك البيت، وفي أحد الأيام يطاردها الكلب لأنها سرقت قطعتي لحم، وقطع حلويات داخل جيبها، الكلب سيأكل اللحم، بينما تُطرد المرأة وتعاقب وتُمنع من العمل في أي مكان آخر بعد اليوم.

الدجاجة التي استبدل بها الزوج كانت تمرض هي الأخرى وتستمر هي في رعايتها وفي دفع الكثير من المال لقاء الدواء لها، لا أحد يتصرف على الإطلاق مع هذا على أنه شيء غريب، كيف يمكن لرجل أن يتحول لدجاجة أصلًا. لماذا كل هذا المال للعناية بدجاجة، فهذا النظام الذي تتبعه هذه المرأة هو المعتاد عليه، حتى وإن كان متطرفًا في غرابته.

كنتُ أشاهد الفيلم برفقة صديقتي المقربة، في كل مرة كنا نعتقد أنها ستختار رجلًا آخر ليتحمل أعباء الحياة بدلًا عنها، ربما لأن هذا ما اعتدنا عليه، أن نفكر بهذه الطريقة، وفي مجتمع كهذا الذي تحدث فيه القصة لا نتوقع سيناريوهات أخرى، في كل مرة كنا نفشل في التخمين لم تكن لتتزوج، حتى نحن اللواتي نظن أننا تحررنا من هذه الفكرة قد يخذلنا الموقف الحقيقي ويجعلنا نتوقع التقليد الوحيد الذي يبدو مخرجًا مناسبًا لامرأة بائسة تتعرض للتعدي اللامحدود، هكذا عندما يكون العالم الذي تعيش فيه ذكوريا وميسونجياً بتطرف، فلا يمكن رؤية النجاة إلا بظلال الرجل، حتى وإن كان رجلاً لا يدرك الواقع كما هو.

في مراجعة عن الفيلم لجايسون بيرودسكي يشير للهجاء شديد السواد للطبقة العاملة في المجتمع الصناعي المصري، ويمثل وجود كافكا بالنسبة له في هذا الفيلم الحضور المركزي للأب في قصة الفيلم، وهذا من وجهة نظري مهم للغاية، فكان بالإمكان استبعاد الشخصية، لكن حتى لغيابها بعد حضورها القصير تأثير واسع يلقي بظلاله على القصة كيفما تقدمت، كما أن هنالك ملمحاً آخر بحسب بيرودسكي لحضور كافكا وهو البيروقراطية اللانهائية التي تواجهها الأم في جهودها لكي تضع الأشياء في مكانها الصحيح، وهي ثيمة لطالما تكررت في أعمال كافكا تحديدًا في روايتيه القلعة والمحاكمة. كما أشاد بالتصوير السينمائي المذهل لكمال سامي إذا تكاملت الصورة الكئيبة التي اقتربت من نهاية العالم مع ما يدور في القصة.

لا نسمع الأم تتحدث كثيرًا الدور الذي أدته دميانا نصار، وهي ليست ممثلة محترفة وقد أدت دورًا رائعًا في العمل، إلا أنني أيضًا استأنست بالمقابلات الصحفية التي أجريت معها بعد عرض العمل في أكثر من مهرجان وسعادتها الغامرة بهذه التجربة التي حلمت بها كثيرًا، فمن امرأة عادية جدًا تلقت هجومًا من ممثلين محترفين في الساحة المصرية إلى نجمة تسير على السجادة الحمراء في أهم مهرجانات العالم السينمائية. إن مشاهدة هذا الفيلم واجبة.