روايات الغربة والحنين

06 سبتمبر 2022
06 سبتمبر 2022

" اسمع يا تشيلي، قال بينما يضغط على كلماته: أخي لم يش بك لأنه رجل. هل تعرف ماذا كان سيحدث لك لو أنك ضربته ؟ سيطردونك من البلاد يا أحمق! أنت وأبويك يا غبي! وأين ستذهبون؟" – من رواية" لم يحدث أي شيء" للكاتب الشيلي أنطونيو سكارميتا.

تكاد لا تخلو أي رواية عربية أو غربية من مشاعر الحنين أو الغربة، وذلك لأن أي إصغاء أو بحث في أية رواية نقرأها عن أحد جوانب هذا الشعور المركب (الغربة والحنين) يمكن أن نجده بسهولة حتى عند أولئك الذين لم يغادروا بلدانهم. على سبيل المثال ، من المعروف أن الكاتب الكبير نجيب محفوظ لم يغادر القاهرة، حتى أنه حين فاز بجائزة نوبل، أوكل لأحد أصدقائه أن يقرأ كلمته أمام الأكاديمية السويدية، ولكننا حين نصغي بعمق إلى رواياته فإننا نجد ثيمتي الغربة والحنين ذاويتين في مجموعة مهمة من أعماله الروائية، التي يوثق في معظمها لمدينة القاهرة بكل مراحلها وأزمنتها ( الفاطمية ، المملوكية، القديمة، الحديثة). نقرأ مثلا عن غرباء يعيشون في المدينة الكبيرة ( القاهرة) قادمين من قراهم وأريافهم ولكنهم يعيشون صراعا في المدينة الغريبة عليهم ، أو نقرأ عن كبار في العمر يحنون إلى مراحل سابقة كان فيه الحال غير الحال. ورواية زينب لمحمد حسين هيكل التي صنفت على أنها أول رواية عربية مطبوعة، تدور أحداثها حول الحنين إلى الريف المصري بكل ما فيه من بساطة وعشق وصبابة، وقد كتب هيكل الرواية أثناء إقامته في باريس، وكأنما ليبث من خلالها لواعجه وهمومه. كذلك فإن أشهر رواية عربية في العالم، ترجمت إلى جميع اللغات الحية وما زالت تطبع حتى الآن، ألا وهي رواية "موسم الهجرة إلى الشمال " للكاتب السوداني المقل الطيب صالح، يدور الجزء الأوفر منها في بلاد الغربة إنجلترا. وإذا ظللنا نتتبع هذه الثيمة (ثيمة الغربة والحنين) في أغلب الأعمال العربية والعالمية فإننا سنكتشفها – بشكل ما – في كم هائل من الأعمال الروائية. وإذا أحصينا تلك الروايات العربية التي كتبت في بلاد المهجر، سواء كان المهجر الاختياري أوالقسري ، فإننا واقفون على مكتبة لا حدود لها من الروايات العربية، ناهيك عن روايات عالمية يصعب حصرها في جدول أو قائمة. كما أن ثيمتي الغربة والحنين لا تبرزان بالضرورة بصورة واضحة في العمل الروائي، إنما يمكن أن تتوارى وتختفي، ولكن بقليل من التفحص يمكن أن تجدها مندسة في مضامين هذه الروايات. يشبه الأمر ما كنا نقرأ في طفولتنا في المجلة الشهيرة ماجد، حين كنا نبحث في كل صفحات المجلة عن "فضولي"، فيمكنك أن تجده فجأة في الصفحات الأولى كما يمكنك أن تقلب المجلة عدة مرات دون أن تجده، لكنك متيقن بوجوده في مكان ما. أول رواية عالمية بالقياس الزمني، وهي رواية دون كيخوته للأسباني سرفانتس، وقد اعتبرت الرواية الأولى لأنها قطعت مع ما كان شائعا من روايات تأتي تحت عنوان الفروسية وهي الروايات التي كانت تسمى بروايات" الرومنس"، هذه الرواية تدور حول غربة البطل دون كيخوته وصراعه في زمن اختفت فيه الفروسية ، وعدم اقتناعه بالأمر ، ما جعله يتوشح بوشاح النبلاء ويحمل سيفه ورمحه وحصانه ويسعى باحثا عمن ينقذهم من براثن اللصوص ، وكان أن حارب في طريقه حتى طواحين الهواء. فمنذ ذلك الحين انفتحت الرواية على مجال جديد مفارق، وهو أن الحياة تتغير بسرعة، ومن يحاول مجابهة أي تغيير فإنه كمن يحارب طواحين الهواء بدون أية جدوى، وهي الفلسفة التي سعت هذه الرواية إلى تقديمها ولكن بصورة بليغة وغير مباشرة.

رواية "لم يحدث أي شيء" للكاتب الشيلي أنطونيو سكارميتا. صدرت عن دار ممدوح عدوان وترجمها عبدالسلام باشا، والكاتب سكارميتا سبق أن أصدر رواية " ساعي بريد نيرودا" التي تعتبر الآن من أشهر الروايات العالمية وقد حولت في هوليود إلى فيلم رشح لخمس جوائز أوسكار. وروايته الأخيرة " لم يحدث أي شيء" تدور حول غربة عائلة تشيلية تعيش في ألمانيا هاربة من قبضة الدكتاتور بينوشيه، الذي عرف بالتنكيل بمعارضيه، هذه العائلة كانت تنتظر فقط أن يتغير الوضع في تشيلي حتى تعود، كما حدث لجاريهما اليونانيين اللذين كان لديهما ولدان واحد اسمه هوميروس والثاني اسمه سقراط ، هم كذلك هاربون من قبضة الدكتاتور اليوناني بابادوبلوس، ولكن ما إن تغير الوضع في اليونا إلا وشرعا في ترتيب وضع عودتهما إلى بلدهما في اليوم التالي مباشرة. العائلة التشيلية كذلك لديها ولدان، أحدهما شيلي بطل القصة. الذي حين رحل رفاقه اليونانيون بقي وحيدا ولم يجد في ألمانيا أي صديق. ومن خلال بطل القصة الصبي تشيلي، تسقط الرواية الضوء على أوضاع المغتربين في أوروبا، أو صفحة من صفحات هذه الغربة القاسية، بعيدا عن الوطن الأصلي، حيث يعيش الكبار على إيقاع الحنين والأمل بتغير الأوضاع، بينما يحاول الصغار أن يشقوا طريقهم الطبيعي في الحياة، وأن يشكلوا ذاكرتهم الخاصة في المكان الجديد. لذلك فإن الصبي تشيلي بطل الرواية، حين أراد أن يكون له صديق في ألمانيا، لم يجد من فرصة إلا تحت ظروف الصراع ، حيث اضطر إلى أن يدخل في عراك حامٍ مع صبي ألماني، كان من نتيجة ذلك العراك، أن تحول الألماني إلى صديق له، استطاع بعد ذلك أن يدعوه إلى بيته بين وقت وآخر.

كل رواية تحمل في طياتها حنينا وغربة، ولكنها لا تتجلى وتتضح بسهولة من الأسطر الأولى، إنما على القارئ أن يبحث قليلا بين الطيات وخلف المعنى الكبير للرواية، تماما كما كنا نبحث ونحن صغار، في مجلة ماجد ، عن المدعو " فضولي" الذي لديه القدرة والخفة في أن يختفي في أي مكان وحيز، وأحيانا بين أغصان الأشجار.