رهان الكتابة للمسرح
مفتتح
"لسنا من الذين يرفضون حرية الإبداع والمبدع، أو تنوع التجارب في المسرح، بشرط أن تكون أصيلة لا تقليدًا، كما أننا نرفض التخلي عن مشروعنا في تأصيل مسرح نابع من الذات، منطلق من معالم هويتنا وشخصيتنا الحضارية."
عبد الفتاح رواس قلعه جي
على ماذا يُراهن النصّ المسرحي اليوم؟
السؤال الأكثر وضوحًا والأصعب إجابة: لماذا ما زلنا نكتب للمسرح؟ هل النص المسرحي يدخل ضمن الصناعة الثقافية لمؤسسات الإنتاج الثقافي الحضاري لبناء الدول؟ أم أن الكاتب هو الذي يعيش في أزمة؟
أين نقرأ اليوم موقف الكاتب في نصّه المسرحي المعاصر من الكون والعالم والمجتمع واللغة؟ هل يتبنى الكاتب المسرحي قضية إنسانية ما أو رسالة؟ هل ثمة رؤية ومنهجا يتضحان لديه؟ هل تقض الحرية المسؤولة فكر الكاتب وتقلقه؟ ألم يقل أحد الكتّاب إن كل الحرية التي في العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدًا! هل الانتماء إلى قبيلة أو عشيرة أو طائفة مؤشر على انتماء الكتابة للإنسان في العالم بعمومه؟ ألم تؤثر الأيديولوجيا على الكتابة المسرحية؟ مَن يقرر أن العرض الفلاني لاقى نجاحا كبيرًا وغيره نزل إلى الحضيض؟
يصف محرك البحث جوجل على سبيل المثال أن المسرحية الفلانية "كانت من أشهر المسرحيات العربية الناقدة والهادفة، وقد حققت نجاحا كبيرا في جميع أرجاء الوطن العربي." فما المعيار الذي يتحدّد على أثره معنى "الناقدة والهادفة"؟ وهل صحيح أن الهدف والنقد قد حققا تطورًا في مسيرة ثقافة المجتمعات العربية؟ وعطفًا على هذا ما صفات النص المسرحي الذي يُعيد الروح والبهاء إلى المسرح في دولة ما؟ وفي مقابل نصوص أخرى تسعى إلى قتل الحياة والهجاء والابتذال والسفه؟ هناك من يرى أن النصّ المسرحي العربي قد انتهى من مناقشة قضية "التراث وإمكان استخدامه في نهضة عربية ثقافية جديدة تربط بقوة بين الأصالة الإبداعية والحداثة التقنية الفنية"، وبات عليه الالتفات إلى مناقشة قضايا أخرى تتعلق بضرورة استقطاب النصّ المسرحي لقضايا مثال: (التنمر، التحرّش، كوميديا الطابع الاجتماعي، كوميديا الكباريه السياسي، تجليات ما بعد جائحة كوفيد 19 الصحية والاجتماعية والاقتصادية)، أو استقطاب ثورة التكنولوجيا عبر تناول مصطلحات مثل: (ما بعد الحداثة، ميتامسرح، ميتافيرس، والمسرح التفاعلي). إن هذا الاستقطاب الذي نشير إليه لا شك يؤثر على النصّ المسرحي، وقد رأى الكاتب المسرحي عبدالفتاح قلعة جي أن أسباب التأثير الحاصل في النصّ المسرحي يرجع إلى "ثورة التكنولوجيا والمعلوماتية - الرقمية، وإحساس الغرب بالتفوق والمركزية، وظهور أشكال من الاستعمار جديدة وشديدة التعقيد، وتأليه الذات -السوبرمانية- كل ذلك ولّد خواء إنسانيا وحياة آلية biomechanic نادت بضرورة كنس أثاثات الواقعية عن خشبة المسرح stage، والبحث عن أساليب شكلانية مغالية باسم التجريب، والتجريب الحديث تسود فيها لغة الإشارة، والجسد، أو الصوت التسجيلي والصور، بمنطق وعلاقات مغايرة تماما للمألوف، وتتضاءل لغة النص المكتوب أو تمّحي لصالح آليات الرقص والحركية والصور، مما أتاح للدراميين عرض هلوساتهم الإبداعية، واستخدام أكبر للفضاء المسرحي والتقنيات المساعدة، وهكذا انبثقت التركيبية constractuism لتخطو بالتعبيرية imprissitionism في مسارات حركية جديدة أكثر ترميزًا وغموضًا، ودخل المسرح مرحلة جديدة شكلا ومضمونا".
يُمكن أن يتصل بالفقرة السابقة سؤالا: هل الأوضاع الإنتاجية الضخمة للمسرح في بعض الدول العربية هي سبب انتشار الكتابة الجماعية للنص الواحد؟ والمتأمل لشماعة الظروف الإنتاجية نشاهد في بعض دول الخليج توفر الدعم اللوجستي العالي للمسرح، فلماذا تشكو من وجود أزمة في النصوص المسرحية؟ وما تعريف معنى "أزمة نص مسرحي؟" هل هناك مواصفات متفق عليها؟ عبر عناوين لافتة للانتباه على محرك البحث جوجل نقرأ مثلا: (مسرحيون يحذّرون من غياب تأهيل الكوادر الشابة -أبو الفنون- في أزمة-2018م)، ونقرأ أيضا: (أزمة النصوص المسرحية في الجزائر تدفع الممثلين إلى الكتابة-2013م)، ونقرأ كذلك: (نقاد وفنانون يناقشون الكتابة المسرحية في الألفية الثالثة بالقومي للمسرح-2021م)، فهل يكمن الحل في الكتابة الثنائية أو المشتركة؟
عندما ظهرت رواية (عالم بلا خرائط) التي اشترك في تأليفها جبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف، سألنا أنفسنا في حينها عن الكيفية التي كتبا بها ذلك العمل، وهل يُمكن أن يَنطلق كاتبان من رؤية فكرية واحدة أو متقاربة لعوالم الرواية الفكرية وخطابها السردي ثقافة ولغة وتخييلا؟ بدا في نظر الكثيرين أن الرواية كانت ضعيفة على مستوى البناء، لقدرتهم على التمييز في بعض الفصول أسلوب وثقافة ومرجعية كل روائي على حدة. تباعًا ظهر بعدهما روايات مشتركة أخرى كـ (عالم على جسدي) ليوسف نبيل وزينب محمد، و(شهادة وفاة كلب) التي اشترك في تأليفها الروائيان العمانيان (عبدالعزيز الفارسي وسليمان المعمري).
تمدد طموح الكتابة المشتركة سواء بين كاتبين أو مجموعة كتّاب إلى التلفزيون والمنصات الفضائية، وكان للمسرح نصيبه من هذا التقليد، فظهرت العديد من تجارب الكتابة الجماعية المتباينة سواء على مستوى الفكر أو المعالجة أو التكسّب، فصرنا نقرأ مثلا عناوين أو ظواهر كظاهرة نشأت عنها: "النصوص التي ليس لها أب واحد، ولكن لها مجموعة من الأبناء، وظاهرة الإخراج الجماعي." وهي ظواهر تحتاج إلى مراجعة وتقييم، وفي ظل تصاعد هذه الإشكاليات التي أخذت بعض إدارات المسرح وسياسته في بعض الدول التعامل معها بمعايير مزدوجة، تعالت نداءات بعض المسرحيين بضرورة "إنشاء أكاديمية فنية لتأهيل جيل جديد مثقف وواع لكتابة النصّ."، والحرص على تفعيل القراءة المبرمّجة للأعمال المسرحية في العصور المختلفة منذ الإغريق إلى اليوم، والاستمرار في عقد الورش التدريبية على مدى سنة كاملة مع متابعة مخرجاتها، والقيام بدراسة تتوخى كيفية "وصول النصوص المسرحية التي لم ترَ النور، ونقلها من الدائرة المغلقة إلى دائرة أوسع، تتيح للمؤلفين أن يتم تجسيد عروضهم بشكل حي" على خشبات المسرح.
في ظل عالم متسارع، وخطابات ثقافية يتداخل فيها الكثير من الثقافات حول التراث الإنساني، والتربية والأخلاق والماديات والعسكر، وتغير شكل الهيمنة، واتساع رقعة اللامركزية في العديد من التوجهات السياسية، فإن العالم المتغير يؤثر في أزمة الإنسان المعاصر، ويرى بعض الكتّاب والنقاد المشتغلين بالثقافة أن التأثير الحاصل أشبه بمرحلة من التجريب في الحداثة. فالكلام عن (ما بعد الحداثة وتجلياتها) مسألة غير جادّة في مجتمعات تناقش اليوم إشكالات قديمة لم تُحسم في التراث الثقافي الديني، ولا في مجالات العلم والتكنولوجيا.
برُغم ذلك، ستظل اجتهادات الكتابة للمسرح موجودة، وسيكون النص المنشغل كاتبه كما يكتب عبدالفتاح قلعه جي قائلا: "المؤلف المسرحي هو حامل لواء الفكر، أياً كان اتجاهه الفني وأيديولوجيته، والفكر هو أساس كل حضارة، ومنهل كل ثقافة، والمخرج الذي تستغرقه التشكيلات البصرية وتقنيات المسرح وسحره عن قراءة الواقع بأبعاده الثلاثة -الماضي، الحاضر، المستقبل- وعن تحليله وتقديم الأفكار، ومخاطبة العقل، واستبطان المشاعر والعواطف، لا يمكن أن يحل محل المؤلف المسرحي الذي يفرغ رؤيته للعالم في خطابه النصّي، والذي هو الأساس في خطاب المنصة."
