رحلة مضيئة وهمس مكتوم

20 مارس 2024
20 مارس 2024

تشكّل الحوارات مصادر معرفية يلجأ إليها الباحثون في بحوثهم ودراساتهم، خصوصا مع الأدباء الذين يختارون نتاجهم الإبداعي للفحص والتحليل، ولن يتمكّنوا من التواصل معهم .

وفي إصداره الجديد «همس في عتمة الكلمة.. رحلة وراء الأحرف المكتومة مع غالية آل سعيد» يأخذنا الكاتب والإعلامي فيصل العلوي في رحلة مضيئة في عالم السيّدة غالية ف. ت. آل سعيد الروائي عبر حوار مطوّل، يقع في 190 صفحة من القطع المتوسط، وعبر (15) فصلا أدار العلوي بذكاء دفّة الحوار ليناقش موضوعات تتّصل بالغياب والعزلة

مسقط.. المجتمع والمهمَّشون، الكتابة كجسرٍ للتجربة والتجسيد، الاعتناق وجدل التحرُّر، رقصة العناوين، التأثير والتحرير في عوالم النصّ، ما وراء الأثر الغربي، القضايا التي تشغل المثقف العربي والتحديَّات التي يواجهها، واقع المرأة في مجتمعات محافظة، الموروث العماني وصناعة الثقافة، جدليَّة القصَّة والرواية، الرواية وتحديَّات التواصل الإنساني العميق، التداخل الشعري في السرد، شغف المقتنيات وقصّة إنشاء متحف «المكان والناس» وهي شذرات من عناوين تلك الفصول، وقد استرسلت الكاتبة في إجاباتها، حتى أن بعضها جاء على امتداد صفحات، والسؤال الذكي يفتح الشهيّة للكلام، وهذا ما فعله العلوي الذي خطرت بباله فكرة الحوار بعد أن اطّلع على نتاج الكاتبة، وهو نتاج ليس بالقليل بدأته برواية (أيّام في الجنة) عام 2005 م، تبعتها بـ(صابرة وأصيلة) 2007م، و( سنين مبعثرة) 2008 م و(جنون اليأس) 2011، و(سأم الانتظار) 2012بجزئين و«حارة العور» 2019 م، وتشكّلت لديه تساؤلات معرفيّة، حاول البحث عن إجابات لها، ولكنّ حوارات صاحبة السمو السيدة د.غالية قليلة، فتواصل معي لأوفر له نسخة من كتابنا (دهشة ثلاثية الأبعاد)، وحين قرأه ازداد نهمه الثقافي، وهنا لم يجد سوى إجراء حوار جديد مع الكاتبة، وهو أمر ليس باليسير، فهي زاهدة بالظهور في وسائل الإعلام، فقد أسّست عالمها الخاص، ونظّمت وقتها بين القراءة والكتابة، ومتابعة شؤون متحفها (متحف المكان والناس) الكائن في مطرح، ومما زاد من صعوبة المحاولة أنه سبق أن بذل محاولات لمحاورتها لكنّها باءت بالفشل، كما يشير في مقدّمته للكتاب، لكنه لم ييأس، وقد أحببتُ به هذه الجرأة، والإصرار، لذا، تدخّلت بالأمر، فرحّبت الكاتبة بعد اطّلاعها على نوعيّة الأسئلة، فالعلوي، الفائز بجائزة الصحافة العربية عام 2016 عن حوار أجراه مع الروائي واسيني الأعرج، يحضّر جيّدا، ويدرس نتاج الشخصيّة التي ينوي محاورتها، وقد عرف عمق شخصيّة الكاتبة الثقافيّة، وسعة اطلاعها، على الآداب المحلّيّة والعالمية، لذا اغتنم الفرصة جيّدا ووضع أسئلة استغرق بكتابتها أيّاما، وحاول من خلالها سبر أغوار تجربتها، ويبدو أن الأسئلة فتحت شهيّتها في الإجابة عنها، وطلبت أن تأخذ الوقت الكافي لوضع الإجابات، فوافق، وكان يظنّ أن الإجابات ستصل إليه بعد شهر، أو شهرين، لكنّه لم يتوقّع أنّ المدّة ستصل إلى سنة كاملة! ومما يُحسب للكاتبة، أن الإجابات جاءت مستوفية، ومكتوبة بعناية، وهذا يعكس جانبا من شخصيّة الكاتبة، فهي تتأنّى بالكتابة، ولن تُخرج الرغيف من فرنها حتى ينضج نضوجا كاملا.

وحين أتمّت الإجابات، وجد العلوي أن نشرها يحتاج إلى صفحات وصفحات، لذا طرأت بباله فكرة أن يقوم بنشر جزء من الحوار، في الصحيفة، فيما ينشره كاملا في كتاب، وهذا ما جرى، وصدر الكتاب مؤخّرا عن دار (أهوار) العراقية من باب أهمية الحوار، وعمق الإجابات، وحرص العلوي على توثيق الحوار «ليشمل كل ذلك الأفق الواسع من التفاصيل التي لم تجد مكانها في تلك الصفحات الورقية» كما يقول في المقدمة «هذا التوثيق يهدف إلى ضمان عدم فقدان أدنى جزء من هذا المحتوى المليء بالعمق والإجابات الدقيقة التي قدّمتها الكاتبة، في رحلة استكشاف عوالم غامضة عن شخصيتها، في رحلة القراءة وتكشف جزءًا من عالمها الروحي وثرائها الثقافي الرائع» وفيصل العلوي يعرف جيدا كيف يدير دفة الحوار في كتابه الرابع، إذ سبق له أن أصدر ثلاثة كتب هي (أرق) -2008م ـ مجموعة شعرية ـ و (بوح الشعر الشعبي) (2014م) مقالات وديوانه الشعري (بوجه الريح والصحراء) (2018م)، فنجح في استنطاق عوالم غالية آل سعيد، وهي عوالم تستند على ذاكرة المكان فالكاتبة، كما يقول الشاعر سماء عيسى في مقدّمته «لا تذهبُ إلى أبعدِ من تجربتها الشخصيَّة في تقديم شخصيات رواياتها المحليَّة أكثر مما تختزنه ذاكرتها في مسقط ومطرح، مدن نشأتها وتعليمها، إلّا أنَّ التابوهات التي تحرِمُ المرأة حقَّ حياتها الشخصيّة، ودرجة عقابها التي تصل إلى القتل، وخلو العقل البشري الذكوري من أيِّ تطورٍ حضاريٍّ يحميه من التردِّي والانزلاق إلى الحضيض، كلُّ ذلك يمتدُّ أفقيًّا من الساحل حتى الداخل، ومن البحر، حتى الأودية. وصولًا إلى الصحراء، تقدِّمُ تحليلًا منطقيًّا لما أحدثه التحوّلُ النفطيُّ في حياةِ الكثيرِ من الناس».

لقد حاول العلوي الإحاطة بتجربة الكاتبة، فجاء الكتاب ثريّا بمحتواه الثقافي ليشكّل إضافة للمكتبة العربية التي تفتقر إلى هذا النوع من الكتب.

عبدالرزّاق الربيعي شاعر وكاتب مسرحي عماني