ذاكرة الرحيل

30 أغسطس 2022
30 أغسطس 2022

بعد فوزه بجائزة نوبل للأدب عام 2021 نما اهتمام متزايد بإصدارات الكاتب التنزاني البريطاني عبد الرزاق قرنح، العربي الذي ولد في زنجبار، وغادرها مع حصول بلاده على الاستقلال. وبدأت دار أثر السعودية بنشر ترجمات رواياته بالفعل قبل بضعة أشهر، منها عمله الأول ذاكرة الرحيل الذي نُشر عام 1987 والذي يمكن للقارئ عند مطالعته الشعور بأنه الكتاب الأول لكاتبه، بسيط جداً من ناحية الصنعة الأدبية، كتبه قرنح وهو يبلغ من العمر 39 عاماً.

يسرد قرنح في هذا العمل سيرة صبي يدعى حسان، ينشأ في بلدة ساحلية في شرق أفريقيا دون أن يسميها، لعائلة مفككة فقيرة ويائسة، ومع بلوغ حسان سن الرجولة عندما يصبح عمره خمسة عشر عاماً، يبدأ بالتفكير في كل ما حدث معه طيلة السنوات الماضية، ونسيرُ معه باتجاه المستقبل المجهول الذي يتمنى حسان أن ينتهي بمغادرته هذه البلاد بلا عودة عندما يتخرج من المدرسة، أو كما يأتي في تقديم النسخة الإنجليزية من هذا العمل فإنه "يمثل رصداً لطقس عبور حسان، إن العمل يقترح تطلعات ومعضلات حسان التي تعكس نضالات أفريقيا للتخلص من جلدها الاستعماري، والفقر والقمع وبناء هوية جديدة لنفسها".

من خلال عائلة حسان، نتلمسُ ببطء ارتكاسات ما حدث في هذه البلاد، ومآلات الاستعمار والعجز على أدق تفاصيل الحياة اليومية، عندما يبدو كل شيء تجلياً للخوف والمعاناة والرغبة في المضي قدماً بعيداً عن وحشية الاستعمار، تُظهر الرواية أيضاً هرمية القوى في هذا المجتمع الساحلي، وكيف يتصرف الناس إزاء العرب الذين بقوا في هذه البلدة الساحلية بعد استقرارها، ويمثل الأب في هذا العمل تجسيداً لأفريقيا الضائعة والملقاة في الخراب، والتي تحاولُ في كل مرة صنع عهد جديد بتجاوز ما فات، لا نعلم هل ارتكب الأب بالفعل الجريمة التي سجن بسببها، وهي هتك عرض صبي في الثامنة، تسبب في جنونه، لا نعلم إن كان الأب قد ساهم في اختطاف الأطفال الصغار وإرسالهم كعبيد إلى الخليج العربي، لا يوجد ما يؤكد ذلك خصوصاً وأن الأم تصرُ على أن الأب شخص طيب، رغم وحشية تعامله معها وضربه لها كلما عاد متأخراً في الليل وهو ثمل من الكحول. أما حسان فإن لديه قوة خارقة تستبصرها فيه أمه، وهي الصمت والهدوء.

حسان الذي نراقب حساسيته، التي لا يخفيها في كثير من الأوقات والذي يحاول مراعاة القوانين التي يخرقها أخوه الأكبر سعيد، حسان الذي يتأمل في مناظر قريته الساحلية، ويمر عبر أزقتها ملتاعاً بسبب بلوغه، شاعراً أنه يحمل هذا المكان في جسده، المفصول عن عائلته، والذي تتنبأ جدته من سلوكه أنه سينكر هذه العائلة ذات يوم، هو الذي يمشي مطأطئ الرأس، شاعراً بالذنب على خراب إفريقيا، على الحريق الذي شب في بيتهم وأحرق سعيداً أخاه، وعلى أنه هو الذي لم يمت، هو الذي يواصل الحلم، والتطواف في القرية، والنظر للبعيد حيث يُمحى هذا المكان بلا عودة.

بحسب أرشيف صحيفة نيويورك تايمز فإن إعلاناً عن الرواية قد طبع في صفحتها العشرين في يوم 17 من يوليو لعام 1988 أي بعد أشهر من صدور العمل، كانت الرواية تباع بما يقارب 16 دولاراً وقد جاء في الإعلان أنها رواية ترصد الغضب مختلطاً بالشوق لمغترب يسعى للتصالح مع وطنه، إنها قصة لصبي يعيش في بلدة ساحلية في شرق إفريقيا محكومة بنظام شمولي لا طموح له، يكافح هذا الصبي لإيجاد هدف لحياته.

يعيد حسان اختراع وابتكار نفسه مع وقوعه في الحب، بعد الإجازة التي قضاها في نيروبي مع خاله وابنته، حينها يصبحُ قادراً على الأمل في أن يعود مجدداً من أجل سلمى، ابنة خاله، وعندما يعود لبلدته الساحلية فإنه يصاب باليأس الذي يمنعه حتى من الكتابة إليها، يمثل الحب في هذا العمل الأمل، والضوء الذي يمكن أن ينقذ الإنسان من الذنب، والاستسلام والخوف المطلق.

مريم صديقة سلمى تنادي حسان باسم بيكاسو الذي كان يجهله تماماً، حسان المنبوذ كما نقرأ طيلة الرواية، يقف على سطح الأشياء التي مازال يجهلها راغباً بقوة في أن يلتحم بها، كما حدث في المشهد الذي جمعه بموسى الذي ادعى أنه طالب للأدب في جامعة نيروبي، ليتبين حسان لاحقاً أنه أحد أفراد عصابة من المصرفيين، وقد وجده في حديقة يعقد صفقات مقايضة بيع وشراء للدولار، وعلى الرغم من تحذير خاله له من مصاحبة موسى، إلا أن حسان يسير خلفه عائداً ليطرح عليه أسئلة كثيرة، فحسان يجسدُ لنا براءة الوقوف على جرف المجهول والبعيد، حيث لا شيء هناك سوى الاعتراف بطبيعة الذات، وتعريتها وتعريضها للنار الحارقة التي ستكشف لها طبيعتها وكنهها.

لا يغيب عن الرواية ذلك الافتتان الفريد من المستعَمر بالمستعِمر، ممثلاً في موسى الذي يود إبادة كل القبائل مقابل تلك الأشياء الثمينة التي تأتي من أوربا، إنهم يعرفون كيف تصنع الأشياء، بينما يشغلنا نحن الأدب والفن والتاريخ، إننا بحاجة لأن نتخلص من أنفسنا فوراً، إننا لا نستحق الحياة، ولا يكتفي قرنح بالإشارة لهذا في روايته القصيرة بل يمضي قدما وبتكثيف عال في طرح إشكاليات السلطة في البلدة المتخيلة، التي تقرر اللجوء لشروط مقيتة للحفاظ على وجودها، كأن تفرض على الناس التعريف بأنفسهم حسب انتمائهم العرقي، بعد أن طارت في الهواء أوهام الوحدة الوطنية في مواجهة الاستعمار، إنها السلطة التي تحاول جاهدة أحكام قبضتها على الناس، الذين يموتون داخل المستشفيات بلا أسرة، وبلا أطباء ولا رعاية، فيما يقضي الطبيب الوحيد في مستشفى هذه البلدة المتخيلة رحلة بصحبة الرئيس لمعرفة كيف يمكن تنفيذ تمثال له. إنها رحلة عن الفقر المدقع، والزوبعة التي يثيرها تيس صغير مربوط في زقاق من حي هذه البلدة في حياة هؤلاء البشر، التي تظهرُ كبيرة، وصغيرة، طويلة ممتدة وقصيرة للغاية في هذا العمل الذي سيشجعني بلا شك على قراءة كل أعمال قرنح في القريب العاجل.