دفتر مذيع :دشداشة وكرخانة

13 سبتمبر 2023
13 سبتمبر 2023

الدشداشة العمانية (وينطقها البعض دهداشة وديداشة، وكذلك كندورة)، من أهم مظاهر أناقتنا وهويتنا الوطنية، وهي التي تميز زيّ الرجل العماني عن أزياء الشعوب الأخرى.. من أعمق ذكرياتي الشخصية، أن بيتنا بين نهاية ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي هو بيت أسرة خياطين.. فلم يمتهن والدي صياغة الفضة مثل عمي وبعض أجدادي لضعف بصره. ولكن ورثت شقيقتي أم أنس هذه المهنة بتقنيات حديثة وأذواق جديدة. أما والدي الذي سافر إلى الداخل التنجانيكي (التنزاني لاحقا) ولم يطل مقامه فيه، فقد عاد محققا بعض المكاسب، من أهمها تعلم الخياطة.. سألته كيف تعلمت الخياطة؟ فقال: علمني صديق سوداني جزاه الله خيرا، وعلمني أكتب بالسواحلية. (شيابنا يطلقون على الأفارقة (سودان) وتستخدم الكلمة تعريفا وليس عنصرية أو انتقاصا).. أما السواحلية فقد أفادته في دفتر الدكان، حيث أخذ يكتب العربية بالسواحلية! عكس ما كان يتم أيام حكم العمانيين لزنجبار، عندما كانت السواحلية تكتب بالحروف العربية، أي أنه يكتب كلمات عربية، ولكن بحروف لاتينية.

الخياطون الذين أذكرهم في مطرح بالإضافة إلى أهلي (والدي والشايب سالم والعم حمود بن سليمان)، الشايب (سعيد بن مسلم العبيداني) الذي تربطه بهم علاقة حميمة، ودكانه على مدخل حارة العريانة (العرين)، والذي أصبح لاحقا أشهر خياط في البلاد، كما أذكر خياطا بلوشيا ولكن لا أتذكر اسمه، دكانه أقرب إلى بيت طالب أو بائعي المشاكيك، وحمدان الفارسي الذي اشتهر بحمدان الدَرزي. حتما هناك آخرون أجهلهم.. كانوا يخيطون الدشداشة الكويتية! والحقيقة أن عبارة كويتية هنا ليست دقيقة، فبعضها كويتية فعلا، وأخرى هجين من الدشاديش الخليجية عموما، وكأن الدشداشة العمانية في مسقط آخذة في الاختفاء.. ويبدو أن السبب هو بتأثير الهجرات التي تمت إبان ظهور النفط في الخليج لتصبح مناطق جذب لبعض العمانيين، إضافة إلى بعض من غير العمانيين الذين اتخذوا من عمان وطنا جديدا لهم.. هذا بالنسبة للعاصمة، أما القادمون من المناطق فيرتدون العمانية، مع فروق بسيطة عن اليوم. حتى عندما بدأت تعود الدشداشة العمانية التي نلبسها اليوم كان الخياط يسأل الزبون: تبغى التقطيعة (التفصيل) عمانية ولا كويتية؟ والفارق الأوضح بين الخيارين هو الصدر الذي يشكّل واجهة الدشداشة، وكذلك منطقة الإبط، والأكمام.. أما العادة التي استمرت سنوات فهي الكسفة الكبيرة أسفل الدشداشة، خاصة إذا كانت للأطفال، لأنه كلما كبر فُتحت لزيادة طولها. كذلك يسأله: المخابي (الأكياس أو الجيوب) واحد وا ثنينه؟ وأي نوع؟ أي ملصق من الداخل أم مستقل؟ فالثاني أقل فضحا لما يوضع داخله.

في عمان عموما أنواع من الدشاديش، التي تمثل مناطق بعينها، فالصورية واحدة من أبرز الأنواع، وواضح أنها تنتمي لولاية صور. كما كانت وما زالت على نطاق محدود (دشداشة بو شق) التي عرفت بها شمال الشرقية وما زال البعض يرتديها. كذلك (العبرية) ويبدو أن لها أكثر من اسم، وانتشرت كـ (موضة) مع بعض اللمسات في مسقط في نهايات السبعينيات، وما زالت تستخدم في الولايات الحدودية الشمالية، وهي اليوم تشكل زيا وطنيا بارزا في الشقيقة دولة الإمارات العربية المتحدة. وبعض الدشاديش في الشرقية والبادية بينها بعض الفروق التي لا أحسن تصنيفها. كما كانت منتشرة في مسقط وربما بعض السواحل دشداشة قصيرة إلى الركبة تقريبا تسمى صديري أو صديرية يكملها الإزار بالطول العادي، يميل لها أصحاب بعض المهن لمرونة التحرك بها.

أنواع الأقمشة كانت محدودة تقريبا، أبرزها مريكاني (ثقيل) وساسوني (خفيف) وبفته (وسط). أما دخول التيترون والبوليستر كان فتحا مهما في الأناقة، تلاه التويوبو والزبدة والقرطاس وغيرها.

أما الألوان فهي الأخرى ليست بدرجات اليوم في تفاوتها وتنوعها. فالأشهر الأبيض والحليبي والرصاصي أو الرمادي، والخاكي، ولبعض أناقة الشتاء المقلّم، أي مخطط أيا كان لونه، أما اللون الآخر الأقرب للبني، فاسمه مع الاعتذار على اللفظ (خروُ كلاب). كما يقوم البعض بنقع الدشداشة البيضاء بمسحوق الـ (بلوُو) الأزرق، لتبدو ناصعة وأكثر وجاهة.

لماكينة الخياطة أو (الكرخانة) صوت مميز لا ينساه من عاش أجواءها، سواء قبل الكهرباء أو بعدها. فقبل الكهرباء إما أن تدار باليد بمقبض ملحق بها مباشرة، أو بدواسة الرجلين التي يربطها بها سير دائري طويل، والذي استبدل بدواسة كهربائية. ولزيوتها رائحة، ويجب الحرص منها حتى لا تقع منها قطرات على القماش فيسبب خسارة حقيقية، ووجود علبة الزيت هذه يصبح مهما ليس للماكينة فقط، لأنه يُلجأ له لفك أو تليين أي شيء.. أما الماكينة الأشهر فهي سنجر (بو فراشة) التي تطورت كغيرها من المكائن، ليصبح إنجاز الخياطة أسرع، وإدخال مصباح صغير مخفي يركز على خط سير الإبرة القابلة للتغيير حسب سمك القماش، ولتدخل إمكانية الخياطة بالـ (الزجزاج - zigzag) فتبدو الخيوط المتعرجة أكثر أناقة وتماسكا على جانبي الصدر والرقبة والكتف والأكمام، والتي تطورت هي الأخرى إلى ما لا يحصى من النقوش. ويعد دخول الزجزاج نقلة نوعية مهمة جدا في أناقة الدشداشة. ومن التفاصيل المألوفة البكرات الصغيرة للخيوط التي تأتي بعضها مع الماكينة، والأحجام الأخرى المألوفة.

ولعل من أبرز الهدايا التي يمكن أن يقدمها الرجل لزوجته أو والدته أو أخته تلك (الكرخانة) الأنيقة ذات القاعدة والغطاء الخشبي المحدب التي يسهل نقلها في زوايا البيت، والعمل عليها حتى على الأرض، ولن ينسى أن يضع في الدرج الملحق بها بعض إكسسواراتها.

للرمسة (السهرة) في بيت الخياطين جو خاص، من حكايات الأسرة، وتحديات الحياة، وأبرز مواضيع السوق، والزبائن الذين مروا بالمحل.. هذا يكمل بعض المتأخرات على ماكينة البيت، وهذا يفرش على الأرض قطع أقمشة متفننا على إيقاع مقص كبير يتناغم صوته مع صوت قص القماش، على أنغام ما يصدر عن الإذاعة التي قد تجعل الشايب سالم ينفصل فجأة عن الجلسة حاملا معه (الريديو) ليتابع نشرة أخبار أو تحليلا سياسيا، رغم أنه هو -ضمنيا على الأقل- (الفورمن).. وفي الزاوية جورة (طاقة أو لفة قماش)، نبهني والدي وهو يفلّ واحدة جديدة ويتناول المقياس المتري المعلق على رقبته، إلى الفرق بين المتر والوار (الياردة) والفوت (القَدَم)، وبين السنتيمتر والإنتش (البوصة) قائلا: (عن يضحكوا عليك).. أما أنا فكانت مهمتي في البيت تثبيت (الورشة أو المفلكة) أي الزرّ البلاستيكي على الرقبة، ولم أسلم من وخز الإبرة أكثر من مرة.. ولا شيء تقريبا من البقايا يذهب للنفايات، فبقايا القماش الطولية تصبح شناطيط (أشرطة تستخدم كحبال) وبقايا الخيوط تجمع كليفة للتنظيف، وبقايا الأقمشة الصغيرة التي لا تصلح للخياطة ستقطع مثلثات تُشكّ متجاورة سيزين بها البيت في العيد الوطني. وربما حتى اللفة الورقية أو الخشبية داخل الطاقة ستأكلها نار الوقود.

الشايب سعيد بن مسلم الذي ورّث المهنة لأبنائه وأحفاده جعلهم يعيدون النظر في بعض اللمسات، فبادروا إلى إعادة الأزرار الأصلية المشغولة بالخيوط، وهي السائدة اليوم، كما قاموا بتهذيب (الفراخة أو الكركوشة)، والتي كانت أقصر قليلا، فأحدثوا في وسطها ربطة بنفس الخيط، بعدما كانت تنتقض (أنكاثا) فتبدو مشوهة، وقد ظهر ذلك لدى بعض المذيعين والمطربين وغيرهم في التلفزيون بعد دخول الغسّالات الكهربائية.

ولي وقفة حول مدى تأثر الشرق الإفريقي بالأزياء العمانية في موضع آخر إن شاء الله.

هذا عن الزي الرجالي، أما الأزياء النسائية، فلم يكن في السوق محلات خياطة نسائية. بل ويتحفظ الرجال والنساء على تبادل الحديث حول تفاصيل الأزياء النسائية.. ولكن في واحدة من المواقف المفاجئة في منتصف الثمانينيات، لم تحضر زميلتي لتقديم عرض للأزياء النسائية في إحدى المناسبات الوطنية، وكنت موجودا للتغطية الإخبارية أو البرامجية، فحتم عليّ الواجب المهني إنقاذ الموقف، فجلست خلف ستارة المسرح -متمنيا ألا يكون في الحضور رجال-، معلقا على العارضات (fashion model) وهن يستعرضن كل قطعة.