دع الضوء يعم المكان

24 يناير 2022
24 يناير 2022

العنوان أعلاه شعار الشرف الذي وضعه رجل الأعمال الأمريكي أندرو كارنيغي ( 1835-1919)، فوق مدخل مكتبته الأولى، هو المولع بالثقافة والمكتبات خاصة، والذي تساءل عن أفضل هدية يمكن منحها للناس، وأجاب هو على نفسه، أن المكتبة المجانية هي أفضل ما يُمكن تقديمه للمجتمع. وكان كارنيغي قد تبرع بما يقارب 90 بالمائة من ثروته لتمويل قطاعات ثقافية وأفراد فاعلين في الشأن الثقافي، منهم شعراء وفنانون وعلماء، حسبما ذكر ذلك الكاتب الكندي من أصل أرجنتيني ألبرتو مانغويل في كتابه (المكتبة في الليل، ترجمة أحمد م.أحمد، دار الساقي) والذي استفاض في الكتابة عن رجل الأعمال كارنيغي الجشع تجاريا، المستغل لحقوق العمال، ومع ذلك اهتم بالشأن الثقافي مثل اهتمامه بمعامله.

إننا نتساءل مثلما تساءل أندرو كارنيغي، عما يُمكن أن يُقدمه رجال الأعمال في سلطنة عمان للقطاع الثقافي، فــباستثناء بيت الزبير لصاحبها محمد بن الزبير، ومكتبة المرحوم عبد القادر الغساني (1920-2015)و(مكتبة دار الكتاب العامة) لا نجد - حسب اطلاعنا - مبادرة ثقافية مستدامة، تساهم في دعم الشأن الثقافي، سواء بتهيئة البيئة المناسبة للأنشطة الثقافية، أو ترعى وتدعم المثقف العُماني، أو تقتني المنجز الثقافي العُماني كالفنون والآداب.

مع العلم أن الثقافة تُخلد صانعها وداعمها على حد سواء. فلو خصص أحد الأثرياء جائزة ثقافية باسمه، وأوقف لها عائدا ماليا، لخلدته كما تخلد الأفعال العظيمة أصحابها، فالثروات التي جناها رجل الأعمال من نشاطه الاقتصادي ستتفرق بين الورثة ولن تصمد بعد وفاة صاحبها. بينما الوقف صدقة جارية على روح صاحبها لا ينقطع عنه الأجر والثواب. نعم هناك بعض الأمثلة على تقديم الدعم من قبل بعض المؤسسات الخاصة لمنشآت ثقافية مثل مبنى الأطفال العامة بالقرم. لكن لا زلنا بحاجة إلى مشاريع ثقافية مستدامة يرعاها القطاع الخاص كجائزة ثقافية سنوية تخصص للآداب والفنون. أسوة ببعض التجارب الخليجية والعربية مثل مركز جمعة الماجد في دبي، الممول للعديد من المؤسسات الأكاديمية ناهيك عن الدعم الثقافي للكتاب والمخطوطات. أيضا يوجد المركز العربي للأدب الجغرافي - ارتياد الأفاق، لمؤسسه الشاعر والأديب محمد بن أحمد السويدي، الممول أيضا لجائزة ابن بطوطة المخصصة لسرديات الرحلة. وفي الكويت توجد مؤسسة عبد العزيز البابطين الثقافية، والتي ترعى مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية، ومركز الترجمة، ومركز حوار الحضارات، وكراسي البابطين للثقافة العربية. وهناك أيضا مؤسسة ثقافية مقرها عمّان، يمولها عبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي، وتعتني المؤسسة بعدة مجالات منها البحوث العلمية والفكر القيادي والآداب والفنون.

إن الدعم الثقافي ورعاية الفنون والآداب، مسؤولية اجتماعية منوطة بمؤسسات القطاع الخاص، ناهيك عن أنها سلطة بيد المُمول الذي حصل هو الآخر على الدعم والتمويل الحكومي، من أراضٍ ومنح وهبات وتسهيلات، وإعفاء من الضرائب ورعته الدولة حتى يقف على قدمه، وإذا لا يستطيع صاحب رأس المال أن يدعم الثقافة مجانا، فليستثمر فيها، كأن يخصص مزادات للفنون الجميلة. وليكن قاسي القلب كما قال أندرو كارنيغي: «أنه ينبغي على الإنسان أن يكون متحجر المشاعر إذا قُيض له أن يكون موسرا...لكنه يجب توظيف ثروته لتنوير روح المجتمع الذي قام باستغلاله». لكننا لا نريد لصاحب رأس المال أن يكون قاسيا مع أحد، بل أن يرعى الفنون كرعاية أسرة آل ميديتشي للفنانين والشعراء في مدينة فلورنسا الإيطالية التي تحولت بفضل الدعم والرعاية إلى أهم مدينة ثقافية أوروبية، فبدعم كوزيمو الأكبر للفنانين، ازدهر عصر النهضة الأوروبية، فلولا دعم أسرة آل ميديتشي لما اشتهرت منحوتات مايكل آنجلو، ولم يصنع غاليليو منظاره.

لن يعم الضوء المكان، ما لم توجد أذواق واهتمامات ترفع من شأن المنتجات الثقافية، وتُقدر مبدعيها وصناعها، وتقدر الإنتاج الفني والأدبي المُشكلان لقمة أي ثقافة من الثقافات.