خيانة المثقف

08 أغسطس 2022
08 أغسطس 2022

هل يمكن للمثقف أن يخون؟ ومتى يُخوّن المثقف ومن يُخوّنه؟ وإذا ثبتت خيانته فمن المتضرر من خيانته بالدرجة الأولى، ضميره أم الآخرين؟ أسئلة عديدة تدور حول المثقف والخيانة. المثقف المنوط به مسؤولية صناعة الوعي القادر على انتشال ذاته ومجتمعه من التخلف والعطب الاجتماعي، والخيانة المُصنفة كأسواء انحطاط أخلاقي تجاه الذات والآخر. لكن من هو المثقف المعني بالأمر هنا، لأن مفهومي المثقف والثقافة في الحقول المعرفية متشعبة، إلا أنها اليوم "تشير إلى عمل ينبغي مباشرته على مدى الحياة الاجتماعية"، مثلما يذكر الكاتب ميشال دو سارتو في كتابه (الثقافة بالجمع ترجمة محمد شوقي الزين). أما المثقف فنعني به الإنسان الواعي القادر على فعل الخير للبشرية ونفعها إن لم يكن بإنتاجه الفكري فبامتناعه عن نشر الشر، والإحجام عن المساهمة في تمجيد السخافة والتسطيح وتوزيع الجهل. لكن جوليان بيندا (1867-1956) يُعرّف المثقفين "بأولئك الذين لا يسعون وراء المصالح والمكاسب، بل يجدون سعادتهم في ممارسة فن أو مزاولة علم أو البحث قي نظريات ما وراء الطبيعة، وتتلخص سعادتهم في الترفع عن ملذات الحياة".

لقد أوحى لنا عنوان كتاب بيندا (خيانة المثقفين، ترجمة محمد صابر) بكتابة عنوان هذا المقال، إذ عرّف بيندا أن الخيانة "هي خيانة المثقفين لمهمتهم بوصفهم رجال كرسوا حياتهم لخدمة العقل". وقد نتج عن خيانة المثقفين وتخليهم عن أدوارهم الطليعية إلى إراقة الدماء وإزهاق الأرواح وعودة البربرية إلى سلوك البشر، وبالتحديد أثناء الحروب والصراعات الدامية. إن الفترة التي كتب فيها بيندا كتابه هي فترة بروز القوميات في أوروبا وإذكائها من قبل المثقفين فظهرت عبارات مثل "إخلاص الروح الفرنسية، ثبات الضمير الألماني، دفء القلوب الإيطالية"، وهي الحقبة التي أعقبتها حربين عالميين، حاولت البشرية بعدها ابتداع القوانين وحقوق الإنسان، ونجحت إلى حد ما في تخطى جراح الذاكرة، ولكن يبدو أن البعض لا يحسن قراءة التاريخ ولا الاستفادة من دروس الماضي، إذ تشهد هذه الأيام صعودا للحركات القومية في أوروبا، الأمر الذي يقلق الكاتب الفرنسي الجريء باسكال بونيفاس صاحب كتاب (المُثقفون المُزيفون: النصر الإعلامي لخبراء الكذب) الذي يقول: "ينتابني القلق الشديد من صعود النزعة الشعبوية في فرنسا" ويضيف: "يسهم مثقفونا "المزيفون" الذين لم تعد أكاذيبهم تخدع الجمهور العريض، رغم استمرار انتشارها بفضل التواطؤ الذي يحظون به، في صعود اليمين المتطرف"، وهذه هي الخيانة التي يشير إليها بيندا، أي خيانة الضمير وإشباع الغرائز والتعالي على القيم الإنسانية ونشر الكراهية بين الشعوب، والتخلي عن التمسك بالحقوق والعدالة والدفاع عنها.

لقد تخلى بعض المثقفين عن أدوارهم ربما لأنهم شعروا بعدم قدرتهم على التأثير على الجماهير وتوجيهها، إذ سحبت وسائل التواصل الاجتماعي البساط من تحت أقدام المثقف الذي لم يعد لرأيه تأثير-كما في السابق- سواء طرحه في محاضرة أو كتبه كتاب أو في مقال أو قاله على المنبر، نظرا لاختلاف الظروف والأدوات والوسائل، فلم يعد للمثقف سطوته المعهودة، إذ زاحمه شركاء آخرون يبحثون عن قوة التأثر لدى المتلقي ويأتي نشطاء التواصل الاجتماعي في المقدمة، الذين أصبحوا يوجهون أهواء متابعيهم وأذواقهم، فهل يسهم نشطاء التواصل الاجتماعي في خداع متابعيهم حينما يروجون لمنتج لا يستخدمونه ويمدحون حاجة لا يحتاجون إليها، فيناقضون أنفسهم ويخونون أنفسهم لأجل المال ولذة الشهرة، فمن يخدع من؟ ومن يستغل من؟، والحقيقة أننا لا نلوم من يسعى للتكسب من وسائل الترويج والدعاية والإعلان، ولكن اللوم ينصب على المتلقي الذي اعتنق الصمت وانجرف خلف كل دعاية أو فكرة يطرحها شخص لديه متابعين ولا يمتلك وعيا.

إننا نعيش لحظة الخدع البصرية والحسية ونتعرض للنصب المُنمق بعبارات أصحاب الحسابات الذين يسعون لزيادة عدد المتابعين، فكلما زاد المتابعين زاد عدد الزبائن والأتباع الذين يغشهم برأيه وذوقه المرهونان أصلا لدى من يدفع الثمن أكثر. فهل نشعر بذلك أم ستصبح الخيانة لفظة متداولة لا تخدش الحياء ولا تثير النفس.