خوان رولفو.. الكاتب الهاوي

17 يوليو 2023
17 يوليو 2023

إن الشهرة في عالم الأدب لا تقاس بكثرة الإصدارات ولا بالإفراط في النشر، وإنما بعمق المنتج الأدبي وتفرده، وأسلوب الكاتب في السرد وتطور الأحداث والشخصيات وتناول الموضوعات وصياغة الأفكار، وقد حقق بعض الكُتّاب الشهرة من خلال رواية واحدة رفعت كاتبها إلى مصاف الكتاب المشهورين، ومن هؤلاء الكاتب المكسيكي خوان رولفو (1917-1986)، الذي يُعد أحد أشهر الكتاب في أدب أمريكا اللاتينية، بل ويطلق عليه الأب الروحي للواقعية السحرية، بالرغم من أن أعماله الأدبية معدودة على الأصابع، إذ أصدر مجموعته القصصية الوحيدة (السهل المحترق) سنة 1953، وبعدها بعامين نشر روايته ذائعة الصيت (بيدرو بارامو)، التي اعترف الكاتب الكولومبي غارسيا ماركيز (1927-2014) لصاحبها خوان رولفو «بأنه أعطاه الطريقة التي سعى بها لمواصلة كتبه». شكلت الظروف الصعبة التي عاشها الطفل خوان رولفو مادة خام لأعماله، حيث تظهر بوضوح أحوال القرى المكسيكية وطباع قاطنيها والصراعات والثارات بين سكانها، فوالد خوان قُتِل على يد قُطّاع طرق، وبعدها توفيت أمه ورعته جدته، ثم عاش في دار رعاية للأيتام، ملامح الطفولة تظهر بوضوح في المجموعة القصصية (السهل المحترق) التي ترجمها بسام البزاز عن دار نثر. تزخر أحداث القصص بالقتل والنهب وحياة الفقر والجوع والحرمان، ففي قصة (أخبرهم ألا يقتلوني) يتوسل الراعي خوبيسنيو الذي قتل دون لوبي وثأر له ابنه الكولونيل بعد مضي سنوات على حادثة القتل، يقول خوبيسنيو «قُلْ لهم ألاَّ يقتلوني يا جوستينيو! هيا، انطلق إليهم وقل لهم هذا. قل لهم أنْ يشفقوا عليّ، أنْ يُبْقُوا على حياتي، رأفةً بي». ثم في مشهد آخر يصف الكاتب حاله خوبيسنيو» لم تعد له رغبة في أي شيء سوى في البقاء على قيد الحياة، الآن وقد أيقن أنهم قاتلوه لا محالة، صارت لديه رغبة عجيبة في الحياة، مثل شخص مات ثم كُتب له الانبعاث».

يقول رولفو عن نفسه في مقدمة رواية (بيدرو بارامو) التي ترجمها صالح علماني (1949-2019) «لستُ كاتبًا محترفًا، إنني مجرد هاو أكتب عندما تأتيني الهواية»، وحين سُئل عن بوادره ككاتب قال: «لقد كنت أعمل في أرشيف للهجرة، في الإدارة الاتحادية، في الحكومة، وهذه الطريقة المثلى ليترك أحدنا هادئا».

ولكنه لم يُترك في هدوئه إذ سُئل عن الأسباب التي جعلته يتوقف عن إصدار أعمال أخرى فأجاب «لأن العم ثيلرينو قد مات، وهو يلقنني القصص كان يمشي معي وهو يتحدث، كان كذابا كبيرا» (أنظر ملاحق المدى، علي حسين).

استفاد رولفو من عمله في الأرشيف واطلاعه على المواد الوثائقية في تصوير الحياة القرى والمدن المكسيكية، واختلاق الأحداث فيها، فعلى مقربة من قرية كومالا يلتقي (خوان بريسيادو) مع (أبونديو)، ويسأله.

ماذا قلت لي عن اسم هذه القرية التي تبدو في الأسف؟

إنها كومالا يا سيدي.

أأنت متأكد من أنها كومالا؟

متأكد يا سيدي.

ولماذا تبدو كئيبة هكذا؟

إنه الزمن يا سيدي.

ينصف رولفو بعض الأمكنة في وصفه فتظهر قدرته المذهلة في التقاط الصور وتحويلها إلى أحاسيس يشعر بها القارئ أثناء مطالعته للرواية، مثل هذا المقطع الرائع:

«ستجد هناك حبي، المكان الذي أحببته، حيث أذوتني الأحلام قريتي، منتصبة فوق السهل، مليئة بالأشجار والأوراق، مثل كنزيّة خبأنا فيها ذكرياتنا. ستشعر أن المرء يتمنى هناك لو يعيش إلى الأبدية الفجر، الصباح، الظهيرة، والليل، كلها الشيء نفسه دائما إنما مع اختلاف الهواء، هناك، حيث يبدل الهواء لون الأشياء، حيث يُهوي الحياة وكأنه الهمس، وكأنه همسة نقية من همسات الحياة».

تُخلّد الأعمال العظيمة أصحابها بصرف النظر عن حجمها فرواية ( بيدرو بارامو ) عدد صفحاتها 186 صفحة، وصاغها صاحبها بتكثيف متقن ورمزية فائقة. وهكذا يتحدى رولفو الجميع عبر أعماله اليتيمة حاملة المعاناة الإنسانية ومعاني الصدق والإيجاز.