خميس أورويل بين الجزيرة والعربية

14 فبراير 2022
14 فبراير 2022

في قصة قصيرة بعنوان «خميس أورويل» نشرها الكاتب العماني محمود الرحبي ضمن مجموعته القصصية «ثلاث قصص جبلية»، الصادرة عن الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء ودار الآن ناشرون وموزعون في عام 2020، يتناول الرحبي قضيّة تتّصل بقدرة التلفاز وقنواته الفضائيّة على تشكيل قضايانا واهتماماتنا بل وصراعاتنا، لا سيّما القنوات الإخباريّة منها، وكيف أن بوسع المرء بدون مشاهدة شيء منها أن يكون بعيدا عن القلق وخالي البال حد الضجر.

تسرد القصة حكاية خميس أورويل، الشخصيّة التي يشكّل اسمها مزيجا من هويّة موغلة في عمانيّتها من خلال الجزء الأول «خميس»، والجزء الثاني الذي يستحضر الروائي العالمي جورج أورويل صاحب النبوءة/ الرواية الشهيرة «1984».

تُخبرنا القصة أن خميس أورويل هذا، كان يسعى إلى طرد الضجر لا الجوع عندما اهتدى إلى حيلة يكسر بها روتين حياته القاتل وتوالي المشاهد والوجوه في يوميّاته، فعمد كل مساء إلى ارتياد أحد مطعمين متلاصقين يقدّمان الشاورما ليسا بعيدين عن مسكنه، ويتنقّل بينهما بحرّية وفقًا لمزاجه، فتارة يجلس في هذا المطعم وتارة في المطعم الآخر.

سريعا وجد خميس أورويل متعة كبيرة لا سيّما مع ملاحظته فصول العداء الخفيّة، في البدء، بين مديرَي المطعمَين والعاملِين فيهما، وزاد من هذا العداء وجود شاشتين كبيرتين في كلا المطعمين، تُضبط واحدة منهما على قناة الجزيرة، وتُضبط الأخرى على قناة العربيّة، ما لم تكن هناك مباراة تبثّها كلتا الشاشتين.

وفي ظلّ التناقض بين القناتين الإخباريتين، يدخل العداء بين المطعمين مرحلة علنيّة لا تخفى؛ فهما وإن كانتا تتحدّثان عن الموضوعات عينها، غير أن وجهات النظر إزاءها متناقضة، ولدى كلّ قناة منهما منطقها الذي يجعل الحقيقة وضدّها في القناة الأخرى على درجة واحدة من التشويش والقلق اللذين تسبّبانه للمشاهد، فما إن يجلس خميس أورويل في هذا المطعم ويكون مطمئنا إلى الحقائق التي تبثّها هذه القناة، حتى تنسفها في اليوم الثاني القناة الأخرى بمنطق ومبرّرات لا تقلّ إقناعا عن الحقيقة المناقضة التي تابعها في المطعم الآخر، (ففي غمضة عين تنقلب «الحقيقة» التي كان يظن أنها مطلقة ويقينية بشأن حدث ما إلى نقيضها تماما، ما بين تحليل وتحليل مضاد، بفعل تناقض المَشاهد والصور والأفكار وتعدد زوايا النظر».

عاش خميس أورويل هذا الصراع الذي تشوّش له ذهنه ما بين مطعم وآخر، ومن شاشة إلى أخرى. حتى جاء يوم احتدم فيه الصراع بين مديري المطعمَين، فقرّر أحدهما تهشيم شاشة تلفاز مطعمه، فيما كان مدير المطعم المجاور أكثر حكمة، واكتفى بضبط الموجة على قناة السودان التي كانت تبثّ في تلك الأثناء أغنية شعبيّة ساخرة «كل زول والزوجة بتاعه إلا ده ما عنده مره».

وهكذا فجأة اختفى الصراع الخفيّ والعلنيّ الذي أجّجته القناتان الإخباريتان، وأصبحت هناك شاشة واحدة فقط لا تعرض أيًّا مما دأبت القناتان على بثّه من تناقضات، وإنما قناة ثالثة لا تقدّم محتوى سياسيًّا إلا فيما ندر في سياق نشراتها الإخباريّة المعتادة، فتحوّل الزبائن إلى هذه الشاشة الوحيدة، و«كما لو أن أي واحد منهم لم يكن مقتنعا حد الاعتقاد، نسي كل رواد المطعم وعماله، حتى عابرو السبيل، كل المشكلات السياسية، واشتغلوا بقضية الزول الأعزب).

تخبرنا هذه القصة بأن المرء يحتاج إلى قضية تشغله، أي قضية، ليس مهمًّا أن تكون قضية كبيرة أو صغيرة، مصيريّة أو عاديَة، لأن الضجر داء قاتل، وتعرف القنوات ذلك جيّدا، وتعرف أكثر أن القضيّة التي تشعلها يمكنها أن تشعل حروبا صغيرة أو كبيرة، وهي تملك المبرّرات الكاملة لخوضها.

لم يكن العداء بين مديرَي المطعمين والعاملِين فيهما معدوما قبل صراع القنوات الإخباريّة، ولكنّه كان خفيًّا، إلى حد ما، يحرّضه التنافس في السوق على الصنعة الواحدة، فقد «كان هؤلاء يتشاجرون إثر كل خلاف بينهم حول مدى أحقيّتهم باستقطاب هذا الزبون أو ذاك. وكان كل طرف يتمنّى لو احترق يوما سيخ الشاورما لدى الطرف الآخر». وفي رمزيّة دالّة تذكُر القصة مالك العقار الذي يقع فيه المطعمان، ويملك مخبزا هو الآخر ويجبر المطعمَين على شراء الخبز منه حصريّا لإعداد الشاورما، ويرتاد هذا المالك المطعمين وفقًا لمزاجه أيضا ضاربا عرض الحائط الخلاف المحتدم بينهما، «فكل ذلك الخصام والجدال والتنابز في صالحه، ما دام يرفع أرباحه ويزيد حافظة نقوده انتفاخا». يُفضّل هذا المالك إبقاء الصراع بين المطعمين في العقار الذي يملكه قائما عوضا عن خسارته أحدهما، وفوق ذلك يستغل مُلكيته للمكان لضمان زبونين يشتريان الخبز الذي يعده مخبزه، فتتحقق له بذلك فائدة مزدوجة: تحصيل إيجار العين المؤجرة، وبيع الخبز، وهل تستقيم الشاورما بغير الخبز؟

تجسّد الأطراف الثلاثة كلّ أشكال الصراع، في السياسة كما في أي شيء آخر، إذ لا بدّ من طرف مستفيد من صراع بين طرفين، ويجني فوائد مزدوجة دون حاجة إلى جعلها أطرافا سياسيّة بالضرورة في حرب حقيقيّة، وإن جعل محمود الرحبي دوافعها أيديولوجيّة سياسيّة تُبث عبر قناتين إخباريتين لا يخفى تناقضهما، من دون أن يرجّح الرحبي كفّة إحداهما على الأخرى.

تستثني القصة أوقاتا محدّدة من حمّى الصراع والاختلاف بين المطعمين، تلك هي أوقات بثّ مباريات كرة القدم، التي تتفق فيها القناتان على محتوى واحد يتحلق حوله المشاهدون مجتمعين، فيما يشبه هدنة مؤقّتة، ما يلبث أن يعود الصراع بعدها من جديد ما إن تعود العربيّة والجزيرة إلى الواجهة.

وعلى الرغم من هذه الإشارة الصغيرة التي يوردها الكاتب لماما في قصته، إلا أنها إشارة تؤكد من جديد على قدرة كرة القدم على جمع ما لم تستطع السياسة جمعه من متفرّق الأحوال العربيّة وصراعاتها.

والرحبي، على الرغم من الرمزيّة الدالّة التي انطوتْ عليها قصّته، يسمّي الأشياء بمسميّاتها، فلم يجعل القناتين بهويّة مستعارة، كما لم يتخيّر لهما الصفات دون المسميّات، بل حدّدهما اسما ومحتوى: الجزيرة والعربيّة، فيما يشبه الإدانة الفنية، ورسم الخلاف بينهما في نقل الحقيقة وفق رؤية كلّ منهما، وسياستها الإعلامية، ودوافعها، ومصادر تمويلها. وظهر هذا الخلاف جليًّا إزاء القضايا العربيّة والخليجيّة منذ مطلع العقد الأخير خاصة.

وهو كما سمّى قناتي الجزيرة والعربيّة، يسمّي قناة السودان، التي تمثّل في الذهنيّة العربيّة - والخليجيّة خاصة - صورة البعد التام عن الصخب والهدوء المستفزّ، وأنها بالمختصر: قناة تقف على الضدّ الكبير من القناتين السالفتين، بل إن المحتوى الملتهب والعاجل الذي تبثّه القناتان، يقابله في قناة السودان محتوى شعبيّ وساخر، لا يقدّم قضيّة ذات بال، ولكن الرحبي يحّول هذا المحتوى البسيط الذي لا يراد به أكثر من مساحة ترفيه، إلى قضيّة جديدة لدى مشاهدين يبحثون عن قضيّة، أي قضيّة تشغلهم يقتلون بها ضجر الوقت وروتين الحياة القاتل، ولعلّ هذه الرغبة في الإشغال كانت وراء النسيان الفوري للخلاف الذي كان قبل قليل محتدما بين قناتين إخباريّتين.

وهكذا يبني محمود الرحبي قصّته على حيوية التناقض على المستويين الموضوعي والفني؛ فعلى المستوى الموضوعي: يلعب الرحبي على حدّي الضجر والتسلية على مستوى الشخصية الرئيسة، وعلى تناقضات قناتي العربية والجزيرة من جهة، والتناقض بينهما وبين قناة السودان من جهة أخرى على مستوى تأثر الشخصيات الثانوية/ المشاهدين، وعلى تباينات المحتوى السياسيّ الجادّ في الأوليين منهم والمحتوى الشعبيّ الساخر في الثالثة على مستوى المضمون. أما على المستوى الفني، فإنه يراوح إيقاع قصته بين الهدوء الضَجِر الباعث على التوتر، إلى الصراع المسبّب للتشوّش الذهنيّ والقلق. حتى النهاية الساخرة، التي بدت مسليّة ومثاليّة لإسدال الستار على أشكال التناقضات السالفة مجتمعة، فقد انطوت هي الأخرى على تناقض جديد، عندما تحوّل الهزل إلى جدّ، وانشغل الجميع بتحليل قضيّة «الزول الأعزب»، تاركين من فورهم كلّ القضايا المهمّة التي كانت قبل قليل مدار صراع أدى لتحطيم إحدى الشاشتين، جاعلين من المحتوى الجديد عبر قناة بديلة قضيّتهم الجديدة.