خطر الروايات

09 مايو 2023
09 مايو 2023

هنالك جدل يثار دائما حول أهمية قراءة الروايات والأعمال الأدبية عموما، عادة ما يتم التقليل من شأن هذه الأعمال القصصية، بالمقارنة مع الأعمال الفكرية التي توصف بأنها أكثر جدية وموضوعية. وبعيدا عن هذا الموضوع الذي تم مناقشته كثيرا، أريد التركيز في هذه المقالة على جانب آخر من دعوى تجنب قراءة الرواية وهي «خطورتها» وحضور هذا الخطاب في فترات زمنية مختلفة، وذلك بالاعتماد على مقالة رائعة بعنوان «كيف تستنزف الكتب الروح وتسمم أفكار القراء». لتارا ايزابيلا بيرتون.

تذكر بيرتون عن رجل الدين الأمريكي جوناثان تاونلي كرين تحذيره من قراءة الروايات في كتابه «الإدانة، الملاهي الشعبية» والذي صدر عام 1869 واعتمد في رأيه على قضاء الناس ساعات طويلة وثمينة في الحلم بروايات رومانسية خرقاء، يتخيلون ويتقمصون فيها شخصية السيدة الجميلة أو السيد الشجاع الذي لا تقف في وجهه المستحيلات. «فقط ليجدوا أنفسهم مندمجين مع بطل القصة» وبهذا فإنهم يفقدون الإحساس بمن هم حولهم. وعلى عكس ما قد نعتقد لم يكن رجال الدين وحدهم الذين حذروا من مخاطر قراءة الروايات، والتأثيرات الهائلة لرواية القصص إذ إن الروائيين أنفسهم لفتوا الانتباه للقوة الفريدة للرواية على قارئها.

تأتي هذه الفكرة من المؤلفين أنفسهم استجابة لاتجاه فكري أوسع ساد في القرن التاسع عشر، وهي استبدال الفنان لـ «المطلق» في عصر ابتعدت فيه المفاهيم عن السلطة التقليدية. اعتمد هؤلاء الكتاب على فلسفة إيمانويل كانط التي تدعو للتفكير والاحتفاء بالعقل البشري وقدرته على فرض نظام وشكل يحدان من فوضى العالم، وبهذا فإن الفنان أو راوي القصص هو بمثابة رجل خارق يمكنه إضفاء ممارسة قوة تنظيمية عبر السرد لإضفاء الشكل على الفراغ.

أظن شخصيا بأن هذا أهم ما في الرواية اليوم، قدرتها على التخريب، وعلى احتواء الشكل بصورة لانهائية الأمر الذي يجعل فكرتنا عن العالم الذي نعيش فيه غير محسومة، إنها شكل من التفاوض المستمر مع الوجود. بعد ظهور التصوير الفوتوغرافي مثلا، كان من الطبيعي أن تكون التكعيبية ملاذا، ليس هذا إلا مثال، على أن الفن لا حقيقة له، مثلما العالم لا حقيقة واحدة له، وهو قادر دائما على أن ينأى بنفسه عن «النسخ» الذي هو سمة عالم ما بعد الحداثة الاستهلاكي. إن من شأن رواية تقارع النظام الأبوي مثلا، التي تحكى بحبكة مركزية، وتقدم مواعظ عن تأثيرات هذا النظام على الحياة البشرية، أن تكون تكريسا لهذا النظام. لكن لدينا الكثير مما يمكن أن يقال في رواية متشظية حديثة، تكتب شخصيتها باليد اليسرى، وتتصرف على نحو أخرق عندما يتعلق الأمر بتبرير رغبتها في الانفصال عن زوجها، ثم ينطلق ذلك السرد الوحشي الذي يلتقط صرير الأريكة، أو لحظة استبدال الحياة بالنوم. أو أن تكون الرواية عبارة عن مونولوج طويل يصف التمدد على السرير والإحساس بالفراش الوثير والأفكار المتخلقة من حالة التراخي الهائلة التي يمنحها النوم كما في رواية النائم لجورج بيريك.

تقتبس بيرتون الناقدة الأمريكية نانسي ميللر للطريقة التي نحكم بها على أحداث الرواية في كونها معقولة أو غير معقولة، بأن هذا التلقي متجذر في القواعد الاجتماعية. فعندما يتعلق الأمر بالتعرف على شخصية وفهم سلوكها، فإننا نقيس التحقق من صحتها عبر توافقها مع المثل العليا في مجتمعنا. في حين أن الروايات لا ينبغي أن تقلد الحياة، بل أن تعيد كتابة الأفكار عبر تمثيل الحياة في الفن. وبهذه الديناميكية فإننا نستعيد تقييم توقعاتنا اللاواعية للنظام الاجتماعي الذي نعيش فيه، إنها بلا شك عودة الشخصيات إلى وضع «غير معياري» و «غير متجانس».

هنالك خطأ شائع تؤكد عليه بيرتون وهو الاعتقاد أن حضور الجنس في الكثير من الروايات هو الذي جعلها خطرة عبر التاريخ، لكن لم يكن هذا هو التهديد الوحيد الذي تلوح به الرواية، فالسيطرة على السرد واللغة لم تكن لتنفصم عن مفاهيم السيطرة السياسية والثقافية. وتشير بيرتون لحديث للكاتبة النيجيرية المعروفة تشيمماندا نغوزي اديتشي في أن فهمها لذاتها كان يأتي من الرواية، وهي بنفسها كتبت قصة في طفولتها تبينت من خلالها أن جميع شخصياتها من البيض ذوي العيون الزرقاء وكانوا يلعبون بالثلج ويأكلون التفاح ويتحدثون عن الطقس، لم تكن نيجرية بالمطلق، لم يكن هنالك ثلج في نيجريا أصلا. كانت اديتشي ترى كمال شخصياتها في أنها بيضاء وإنجليزية وعلى النقيض منها تقبع أفريقيا: السلبيات والاختلاف والظلام.

ذكرني هذا التناول بكتاب صغير لكنه أثير لدي «اللهو في العتمة» للروائية توني ميرسون، لكنه لم يكن رواية، بل محاولة لاستنطاق الرواية الأمريكية خلال التاريخ، وتكريسها للتمييز ضد السود حتى بعد أن سادت في المجتمع دعوات الانفتاح والمساواة وما إلى ذلك، إلا أننا نكتشف ومجددا كيف يمكن للرواية أن تجعل مصائر شخصياتها النهائية، طريقا لتكريس صور بعينها تكون متطرفة كما في حالات الروايات التي درستها ميرسون.