حول إحباط الدراما 1-2
يكتب عمر الخيام:
«كأني بهذه السماء منجل
تجعلنا ضرباته عصفا
لهفى علينا من تعساء مساكين
نعتنق العدم دون أن نعانق الهناء
ولو لحظة واحدة»
قررت هذه المرة في شهر رمضان الفضيل الإخلاص لشيئين: أولهما التفرّغ لتدبر سورة من القرآن الكريم، والثاني مواصلة الانتهاء من مراجعة كتاب حول المسرح. الأمر الذي يعني مباشرة أنني لن أتمكن من مشاهدة الدراما في هذا الشهر، ولن آبه بالاكتراث بتتبع أخبارها، لا من القريب ولا من البعيد.
كنتُ سأنجح في خطتي، وسأهنأ بالوقت كله، لولا حصول أمرين: أولهما يخصّ لحظة عاطفية غمرتني فعزمت وتوكلت أن أقضي شيئا من صيام شهر رمضان مع أهلي في صلالة؛ الأم والإخوة والأحفاد. ثانيهما زيارتي إلى الفيسبوك وقراءة بعض التعليقات حول دراما الأعمال الفنية في رمضان التي أثرت على مراجعتي لقراري. لا شك أن السببين السابقين سيجعلان الوقت الواسع يضيَّق كثيرًا، لا سيما، ورغبتي الأكيدة في الإخلاص لما خططت له، لذا، وكعادتي حاولت في غالب الأوقات تحويل الأشياء الصغيرة إلى مكاسب كبيرة والخروج بأقل الخسائر المحتملة. في داخلي أدركت أن الترتيب الذي رتبته وأنا في مسقط عليه أن يتغير أو يجري تعديله، فالحرية الكاملة التي ترعرعت عليها هناك، ستتعرض للنقصان هنا، ومن سوء الطالع، أن ما خططتُ لإنهائه أخذ يسير معي هنا بخطى بطيئة جدا.
الحاصل معي، أنني وجدت أهلي مِثلي غير مهتمين بتخصيص وقت ثابت لمشاهدة الشاشات، لكنهم بحكم تجمّع الجميع عند تناول الإفطار كانوا ينتخبون بعض مسلسلات الدراما الخليجية وأخرى العربية، ومسلسل (منّا وفينا) الدراما العمانية المحلية، وعليه أخذت أتابع من هنا وهناك ما تيسر.
كنا في السابق قبل ظهور الفضائيات نتحصّل على أخبار المسلسلات إما من خلال اللقاءات الأسرية، حيث يفضّل الجميع تبادل الأخبار والتعليقات عن الأفكار التي تُعرض والشخصيات التي تقدم والأنماط التي تتسيد، وكذلك الصحف والمجلات. اختلف الحال اليوم، بتراجع الصحافة الورقية، وظهور مواقع التواصل الافتراضي، وإنشاء المجموعات عبر الواتساب، وإعلانات (البلوجرات) و(ترندات السنابشات) التي تنتخب مشهدا دراميا من أحد المسلسلات لتفتعل حوله النقاش، وغيرها من الوسائل، فهؤلاء يقدمون لنا اليوم النقد والتقارير الفنية ويعلون من شأن الحقير أو الوضيع إلى الذرى.
ومن خلال ما شاهدت وقرأت على صفحات بعض الأصدقاء والنقاد وآرائهم حول دراما مسلسلات رمضان هذا العام، رأيت أن الأمور لا تُبشر بالخير. يتصدر ذلك على سبيل الأمثلة لا الحصر: استمرار استهتار المخرجين بعقلية المشاهد العربي، ومن قبلهم كتّاب الدراما الذين يتاجرون بالأفكار الملقاة على قارعة الطريق كيفما اتفق. والتكرار في تناول موضوعات الأسرة العربية المحصورة في الخيانات الزوجية وكسر العادات والتقاليد الدينية، والانحلال الأخلاقي والفساد السياسي وتعاون التجار والرأسماليين وبعض المتدينين مع زمرة من المأجورين أو القتلة أو المتنفذين لتحقيق المنافع الخاصة. مع هذا كله، غياب المسلسل الديني أو التاريخي الذي يكتنز بقيم سابقة مثلا كالوحدة العربية والنبل والشجاعة والذود عن الأرض. وتضاف إلى هذا كله، الأشكال المبالغ فيها لوجوه الممثلات والممثلين على حد سواء بسبب اللجوء إلى عمليات التجميل دون مراعاة أو إخلاص لفكرة الشخصيّة الدرامية بطغيان جوانب التسطيح الثقافي والمعرفي وتسليع الجسد.
المفارقة الحاصلة هنا، أن شطرا كبيرا من الكلام المتكرر على هيئة النقد يقال منذ عقود حول الجزيئات المذكورة، في مقابل ذلك أنه لا جديد يحدث على مستوى سياسات المؤسسات الرسمية، فلا الجهات المعنية بتطوّر الدراما تقدم طرحا أو تدير نقاشا هادفا، وهي نفسها فتحت المجال لقطاع الشركات لتتدخل في إنتاج الدراما وفق نظام العرض والطلب، ولا جمهور المشاهدين هم أيضا استطاعوا أن يتخففوا أو يرفضوا أو يقاطعوا عن إصرار متابعة تلك الأعمال التي ينتقدونها، كما أن الممارسة النقدية المبنية على أسس علمية ومنهجية رصينة فنقد الدراما أخذ يتبوأه الدخلاء المفلسون من قطّاع الطرق، الذين يقبضون الثمن سلفا عبر حسابات هواتفهم النقّالة.
هذا الحال غير المشرق لدراما الفضائيات والمنصّات في رمضان، يفسح المجال أمام ظهور عدد من الكُتّاب الفقراء بالمعالجات الدرامية غير الواعية، مما يتيح معه كذلك تصدر أنواع هزلية من الضحك والإسفاف غير المبرر دراميا إلا لتعبئة ساعات البثّ المدفوعة سلفًا، وليذهب المشهد أو الأفكار أو الارتقاء بالذائقة إلى الجحيم وبئس المصير، فلا مراقبة ولا حرص. ولا يقف الأمر عند ذلك الحال، فالشخصيات الدرامية التي تطرحها أفكار هؤلاء الكُتّاب تعاني الخلل في التسطيح والنمط والمباشرة، لدرجة أن تكرارها في مواسم رمضان الفائتة، لم يحررها في هذا الموسم من سذاجتها وسخفها، بل إنها شخصيات نمطية هبلة تدفع المشاهد معها إلى الشعور بالاستهبال تارة أو التصلّب في إبداء الحُكم، بالإضافة إلى ذلك يلجأ بعضهم إلى الحلول السريعة التي تأتي عن خلطة عجيبة من القصص والمواقف والحبكات المتسرّعة المغلفة ببهارات السياحة الوطنية عن البيئة العربية الجاذبة، وإسناد التمثيل إلى غير الممثلين، بهدف جرّ المشاهد إلى اتجاهات ثابتة يمكن معرفة نهايتها سلفا.
هل هذه الدراما مدعاة للاستمرار على متابعتها أم الابتعاد عنها حفاظا على الأعصاب والنفسية؟ أتيحت لي مشاهدة حلقات متفرقة من مسلسلات مختلفة، محلية وخليجية وعربية، فشعرت بالحيرة أين أسير؟ فهناك ممثل يؤدي الشخصية باقتدار ملحوظ، لكن فجوات النص كبيرة! وهناك ممثلة تؤدي الدور بحرفة جيدة، لكن الواقفين معها لا يعززون الأداء، فنقرأ بعض الآراء من مِثل: «أداء الممثل كسّر الدنيا وأكل الجو! والممثلة غول في المشهد! والشخصية غير مدروسة أو غير ملعوبة! التسريحات عجيبة فوجوه الجميع متشابهة كأنها دخلت صالونا واحد!... إلخ. فأين الخلل بالضبط؟
وللإحباط بقية..
