حكمة الأنثروبولوجيا

23 يناير 2024
23 يناير 2024

(1)

إن الخطوة الأولى في سبيل التخلص من أحد الشعوب هي محو ذاكرته، وتدمير كتبه وثقافته وتاريخه؛ عندئذ سيكون هناك من يكتب كتبًا جديدة، ويصوغ ثقافة جديدة، ويُلفق تاريخا جديدا. وقبل أن تبدأ الأمم في نسيان ماهيتها، وماذا كانت فإن العالم حولها سينسى ذلك بصورة أشد تسارعًا». ميلان كونديرا، الضحك والنسيان.

يقوم الفن على فعل الفرجة.

في مواقع متناثرة في خارطة العالم، وعلى بقاع جغرافية محتلة أو آمنة، مسوّرة أو منفتحة للوجود البشري، تتأسس علاقاتنا الإنسانية، وتنشأ ثقافتنا المشرقة، فتنمو وتمتد، أو ترتاب وتخضع.

في أحسن الأحوال، لا أسوأها، وفي كل بقعة في العالم، ننفتح في اللقاءات الآخذة صفة الجمعوية، بالتعرف على أنفسنا... يحدث ألا نتبادل أسماءنا، لكننا ننجذب إلى الأساطير؛ أساطيرنا، طعامنا المُبهر بالفلفل والحوامض، أو نتذكر مقاطع غنائية من بعض أغانينا الفجّة أو العاطفية نسمع بعضنا... يرتجل أحدهم واقفا بشجن عصي على الجمر هذا المقطع الغزلي الجميل:

«حبيبي شمعة الجلاّس

ولاكو من يسد عنه،

غشيم بالهوى ما داس

ادروبه من صغر سنه»

ليأتيه صداها المتطاير مع هبات النسيم من مكان آخر:

«تباعدت يا صولي قُرب حمران بشوية

تعبت ما معي قدره من السِيرة والجية

مسى قلبي متحول من الديرة الشرقية»،

فنرقص ونصفق، ونتبادل الأمثال والحكم، وفي مواقف أخرى نتألم... نحزن، ثم نبكي.

حقيقة ما يجمعنا، هو الرغبة في التعارف وإجراء الحوار وتبادل عشق اللغة، وفجيعة ما يفرقنا: عدم الاعتراف بالاختلاف.

(2)

في حكمة الأنثروبولوجيا تتنزل العديد من الموضوعات. في مقتطع ميلان كونديرا السابق أراه يلحُّ على شيء واضح يختفي بين جزيئات السطور: على الشعوب أن تروي حكاياتها وقصصها وتُسمّع أصواتها. في التاريخ السابق للحضارات، وفي الجزء الثقافي المعني بدراسة ثقافات البشر ووظائفها، وفي محاولة قراءة الوضع العالمي الحاصل اليوم بعد السابع في الشهر العاشر -طوفان الأقصى- ما الذي وظفته آلة الإمبريالية والكلونيالية في قراءة ما لم تُظهره كشوفات الأنثروبولوجيا؟ ما الصور غير العتيقة المخبأة في الأرشيف؟ ما اللقطات الأكثر خيانة التي التقطها المكتشف الأوروبي المزهو بحداثته التي تقتلنا؟ في صورة شخصية أحتفظ بها تجمع أبي وضابط إنجليزي استقبلناه في بيتنا الكائن في صلالة الجديدة قبل مغادرته إلى مكان آخر، أتأمل ابتسامة أبي والإنجليزي. صورة عتيقة، إذا تناولها أنثروبولوجي وحللها لقال ليّ الكثير.

يبدو الانبهار بالصور العتيقة التي التقطت لطقوسنا في أفراحنا وأحزاننا وطعامنا وأهازيجنا وملابسنا نوعًا من «طبق فتح الشهية لوجبة دسمة تالية». وجبة ستقدم على طبق من ذهب لمغامر أو مكتشف لا يعجزه القيام بمغامرة جديدة، لفتح جديد.

(3)

«في سبيل التخلص من أحد الشعوب هي محو ذاكرته» هذا صحيح.

الذاكرة مخزون كل شيء. الفوتوغرافيا تفعل شيئا يسيرا من تثبيت الصور. أما الكتابة والاستدامة في القول، والحكي الشفاهي، والغناء، والدندنة والرقص تظل مرتبطة بما لا يجعلنا بعيدين عن ذواتنا. الممثل المسرحي يمتلك قوة كبيرة على فعل التمثيل والتقمص والإيهام. هذا ما يؤكده قول فاليري نوفارينا: «الممثل هو الذي سيفجر كل شيء».

يتنكر الممثل، بعد الارتهان لأطراف محدّدة هي الدور الذي سيلعبه، والمخرج الذي سيوجهه، والجمهور الذي سيتفاعل معه. في سياق هذه الوضعية، سيؤدي الممثل دوره، لاحقا ستكون هناك صورة عتيقة لوجه الممثل في أذهان المتلقين لأدائه. يستفيد الممثل من طاقة الذاكرة الانفعالية التي تختزنها ذاكرته، يأتي بها من صندوق الحكايات، يحررها بعض الشيء من أشيائها، يتفاعل معها، ويبدأ في تقديم الشخصية التي سيؤديها، تارة يتزن، وتارة أخرى يعجز عن تذكر أي شيء، فجأة ينشط شيء في داخله، يقاوم تلك اللحظة التي يشعر أنها تفلت منه، أو كادت أن تفلت، إنها لحظة يتخيل فيها أن ذاكرته على مشارف الانهيار. بين الحضور أو من مكان قصي، يلتقط المصوّر صورته، يراه، يشعر بعرقه، وغليان أعصابه ودمه، تؤخذ اللقطة فلا ينُكر فضل الفوتوغرافيا، وهي تحاول ألا يتخلّص الممثل من ذاكرته.

(4)

ما الصور المثبّتة في ذاكرتنا بعد طوفان الأقصى؟

عدد لا يُحصى من الصور المؤلمة، الحادة، المنفّرة، الغاضبة، والخجلة وطلب السموحة والغفران. تفعل الفوتوغرافيا ما تؤجله الكتابة الإبداعية حتى حين. نجهل ذلك «الحين» متى سيكون زمنه، لكن الصور اليومية المتكررة لعدد الضحايا والشهداء والخراب والتهجير القسري، لها تأثير آخر؛ إنّها تشكك في قيمة الميراث المُحقّر لادعاءات عناوين التحضر الكبرى: «التسامح، والتعددية الثقافية، والحرية، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، والرفاهية، والعدالة»، وتعلو من عناوين أخرى، مثلا: «الاستعمارية، والبراجماتية، والبيروقراطية، والرأسمالية، والإبادة الجماعية، والسوق، والسيادة، والسياسة، والعرق».

(5)

«روح الروح».

على أرض الواقع هناك علاقات سامة بين البشر، يجب تجنبها. أيضا هناك صور من ذاكرة الفوتوغرافيا يجب ألا ننساها. بعض الصور لا تكشف عن الجوانب الخفية غير المعلنة. لكن تظل للصورة قدرتها على تمثيل بعض من حياة تُنتهك، وحكايات تُقص، ليلصق مكانها حكايات أخرى. هكذا برصاصة يموت إنسان مجهول بالنسبة إلينا؛ إنسان لم نتجاذب معه أطراف الحديث، ولم نغنِ معه أغنية تراثية منذ النكبة 1948م؛ كهذه الأغنية التي أحبها:

«وين ع رام الله،

ولفي يا مسافر وين ع باب الله،

ما تخاف من الله، ما تخاف من الله

تاركني ورايح وين ع باب الله»

ولم نحتسِ سويًا كوبا من «الميرامية»، ولم نتهاد عطر «النعناع أو البابونج»، ولم نأكل معه «الزعتر» أو «الزيتون»، يظل ذلك الإنسان مجهولا، فلا تفاصيل عارضَة جمعتنا، حتى على أرصفة المطارات أو المعَابر، وهكذا أيضا، بدبابة وحشية تختفي عائلة غزاوية بأكملها.

الصورة تعيد صياغة المشاعر والأفكار، فتزيح فكرة وتُرسخ أخرى مختلفة. هذا ما فعلته صورة الفلسطيني الجَّد (خالد نبهان) وهو يودع حفيدته الصغيرة (ريم) فأطلق عليها وهي شهيدة بين أحضانه: (هي روح الروح).

من الحكمة الابتعاد عن الخوض في الموضوعات التي تُنهك الذاكرة، وتفتتها. لكن المبدع لا يستطيع أن يفعل ذلك. إن زوادة الإبداع هي تلك الذاكرة بمخزونها المقيم في حقول متضاربة كثيرًا. ومن المفيد أن نتذكر حكمة قرآنية عظيمة في الآية رقم 13- من سورة الحجرات قوله تعالى عزّ وجل: «يا أَيُّها الناسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه أَتْقاكُمْ».

الصورة... الذاكرة... الأنثروبولوجيا... الممثل... الفرجة.

يمكن أن يترافق مع هذه الكلمات العديد من الأفكار. الموسوعات والمعاجم تفعل ذلك على نحو أكثر جاذبية وفعالية ومحاججة. وظيفة حكمة الأنثروبولوجيا التي تغدو بمثابة ضالة الشعوب، أينما وجدوها فعليهم الإنصات لصوت ما هو إنساني- عالمي فيها، إذ تدخل اليوم إلى مختبرات التجارب الخاصة، والإعلان عنها، ومعرفة مدى أن تكون أكثر قابلة للانفتاح، على إثر هزة مصطلحات التحضّر الذي سيطر عليه المتنفذون بالقوة، ووطنوه في ذاكرتنا وصورنا العتيقة.

أخيرا:

«مَن سيبقى حتى النهاية سيروي القصة. لقد فعلنا ما بوسعنا. لا تنسونا».

هذه الكلمات الأخيرة للطبيب (محمود أبو نجيلة)، الذي أصّر على البقاء مع مرضاه في مستشفى العودة -غزة، حتى استشهد في 21 نوفمبر- 2023م.