حقيقة..
من ينكر الواقع يجازف بالتعالي على الحقيقة؛ فالواقع حقيقة، وهل الحقيقة يجب أن تكون ملموسة؟ ليس شرطا كما أجزم؛ لأن الضوء حقيقة، ولا نستطيع أن نمسك بالضوء فالضوء ليس خيالا؛ لأنه حقيقة واقعية تدركها الأبصار، ويظهر أثرها على الواقع. ربما تكون الصور المتخيلة واقعا بعد فترة من الزمن متى تحقق لها وجود ملموس؛ فالكثير من المتحقق اليوم كان في زمن مضى نوعا من الخيال، ولننظر إلى ما حولنا لنتحقق من ذلك، وهذا أمر لا يمكن إنكاره، ولكن الخيال في لحظته الراهنة لا يمكن أن يمثل حقيقة معينة يمكن الجزم بوجودها على واقع الناس. والحياة بمفهومها العام هي معنى غير مادي، ولكن الصور المعبرة عن مفهوم الحياة هي حقائق مادية؛ فالإنسان كائن مادي وهو صورة من صور الحياة، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، كما هو الحال في مفهوم الموت، وهو حقيقة غير ملموسة، وتمثل حقيقته ذلك الجسد المسجّى على الأرض بعد أن فقد حياته النابضة قبل لحظات.
تذهب الفكرة هنا أكثر إلى أن الحقيقة أيا كان نوعها لا يمكن تجاوزها، أو القفز على واقعيتها إلا باتخاذ وسائل ملتوية وغير سليمة مع «سبق الإصرار والترصد»؛ لأن من يتجاوز الحقائق يدرك أنه مخطئ، ومع ذلك يكابر على خطئه، ويتجاوز حقائق الأمور. ولعل من يمارس ذلك يشعر نفسه أنه يتذاكى على الآخرين من حوله مع أن قرارة نفسه توجعه بخطأ ما يرتكب في حق نفسه قبل كل شيء، والآخرون لا يهمهم كثيرا مكابرة هذا أو ذاك على حقيقة ما ما دامت مصالحهم لم تمس، وما داموا في مساحة الأمان التي يعيشون فيها. وبالتالي من يجازف بتجاوز الحقيقة عليه أن يتحمل تبعات تصرفاته وهي خاسرة على كل حال مهما أشعر نفسه بأنه يحقق مكاسب معينة في هذا التجاوز؛ ولذلك قيل: «الشيء الأكثر إزعاجا في الحياة هو أن الشخص الصادق يخسر دائما في صراع الكلمات؛ لأنه مقيد بالحقيقة بينما الشخص الكاذب يمكنه أن يقول أي شيء»مع أن كذبه يظل مكشوفا لدى الآخرين من حوله؛ فالآخرون في المقابل ليسوا أغبياء لكي تنطلي عليهم حيل الكاذب، ومجازفته بتمييع حقيقة ما؛ فهل يدرك من يمارس الكذب أنه يتجاوز حقائق الواقع وأنه مكشوف من الآخرين؟ تمتلك ذواتنا الكثير من الحقائق منها: الصدق ــ كما جاء أعلاه ــ والأمانة، والشجاعة، والكرم، والقناعة، والالتزام، والاحترام، مع نقائضها وهي: الكذب، والخيانة، والجبن، والبخل، والتردد، والتراجع، وسوء تقدير الآخر. فالنقائض لا يمكن أن نلغي حقيقتها؛ لأن لها تأثيرًا على واقع التعامل مع الآخر، ولكن تحدث المفارقة وهي مفارقة موضوعية بين هذه الحقائق ونقائضها في مستوى الإيمان بأي منها، وهو الإيمان الذي يحقق قدرا من المكاسب سواء مكاسب دينوية زائلة، أو مكاسب أخروية دائمة وفق تأكيد النص القرآني العظيم. والسؤال هنا: ما مستوى الاختيار لأي حقيقة نريد أن نلتحم معها أكثر من غيرها؟ هل الصدق مقابل الكذب؟ أو الأمانة مقابل الخيانة؟ أو الشجاعة مقابل الجبن؟ أو الالتزام مقابل التراجع؟ أو الاحترام مقابل الإساءة؟ وهل نحن مخيرون بين أيهما نريد؟ أم أن الظرف الآني هو الذي يحدد حتمية الاختيار؟ مع الأخذ في الاعتبار أن الانحياز لطرفي الحقيقة لا بد أن يلازمه دفع ثمن ما عاجلا أو آجلا، ولكن من ينحاز إلى الصدق، أو الأمانة، أو الشجاعة، أو الكرم، أو القناعة، أو الالتزام، أو الاحترام لا شك أنه الرابح في نهاية الأمر؛ لأن ذلك يتوافق مع الفطرة، والعكس صحيح، وهو المؤدي إلى تعذيب الضمير؛ فالضمير هو الخصم والحكم.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عُماني
