حفلة عيد العبث

30 يناير 2024
30 يناير 2024

(1)

هل نعيش زمنًا عبثيًا؟

تعلو الأصوات المحتجة كل يوم على أحداث الأقصى الدامية... لكن بلا جدوى من ذلك الاحتجاج. ترتفع أصوات تؤثر الشك - لمجرد الشك - في كل شيء. وهناك أصوات أخرى تجزم بالعبثية فيما يجري. هذه الأصوات ترى أن التمسك بالإيجابية والدفاع عن الأمل هو محض عبث، فترمي بإيمانها في عبثية ترى الوجود وهمًا أو تسلية، وأحيانا تراه هيمنة طاغية لكل اللامعنى. ففي اللغة لا معنى لأقوال الساسة وتصريحات المسؤولين، وتخمينات المحللين، ولا معنى لأحرف اللغة العربية... لغة الضاد والهوية، حيث حوّل القتل وحرب الإبادة جميع الجثث إلى أرقام. الرقم صار «وساما وشارة»، هكذا غدا «أطفال غزة يكتبون أسماءهم على أيديهم ليسهل التعرّف عليهم إذا استشهدوا.»

يقول الخبر: «... واتخذ الأطفال الفلسطينيون هذه الخطوة لوجود العديد من الشهداء الذين لم يتم التعرّف عليهم، وخاصة الذين استشهدوا في المستشفى المعمداني بمدينة غزة الذي شهد مساء الثلاثاء مجزرة مروعة استشهد فيها نحو ٥٠٠ فلسطيني إثر غارة إسرائيلية بحسب حصيلة لوزارة الصحة في القطاع.»

يتمدد الشك ليُعلن قدرته على الحط من العلم والمعرفة. لكن الظروف السياسية والاجتماعية والفلسفية التي دفعت المشككين في اختراع مسرح اللامعقول والقول بعجز اللغة وخواء المعنى تختلف كثيرا عن ظروف هذا العصر، سياسيا واجتماعيا وثقافيا. لقد أدت الحربان العالميتان إلى إحداث شرخ عميق هزّ بنى الحياة، حيث أسهم العلم في اكتشاف القنبلة التي دمرت الحياة في بقاع من العالم (هيروشيما وناجازاكي) اليابانيتين، أما اليوم فإن العالم تخترقه عقول علمية كثيرة، من قيام شخص (هاكر) أو مجموعة (هاكرز) لديهم قدرة لاختراق الثغرات الأمنية في أجهزة الحاسوب وأنظمتها بغض النظر عن أهدافهم. لقد تطورت أساليب التتبع والقرصنة والتلاعب والتجسس، فغدا أصغر طفل في البيت يستطيع بواسطة امتلاك معلومات وبرامج حاسوبية منظمة أن يتخيل قدرته المجنونة على تدمير هذا العالم بضغطة «سر» سوداء على جهازه اللوحي.

لم يتغير الشعور بعبثية الحياة مع تنامي التقدم العلمي وتطور آلياته في جميع جوانب الحياة الاستهلاكية وغيرها. بالرغم من اختلاف الظروف والأسباب للحربين العالميتين ومنشأ اتجاه فلسفي وأدبي وفني في العالم عُرف باللامعقول (العبث تجاوزا)، فإن معطيات حرب الإبادة منذ مائة يوم ويزيد على غزة، تجعل المرء يعيش ذلك الشعور البائس. فالعلم، كل العلم، بأسلحته ورصاصاته وقنابل دباباته تُوجه إلى مكان واحد... عقول الخبراء والاجتماعات الطارئة، والاحتجاجات، والتضامن، والمقاطعة، والدعوات وغير أشكال التضامن توجه أنظار العالم إلى بقعة جغرافية تُقدر مساحتها حوالي ٥٦ كيلومترا مربعًا.

(2)

ما جاء أعلاه في الفقرة الأخيرة يمكن الارتياب فيه وبالتالي هدمه.

ببساطة، تغير شعور الناس في العالم كله بإحساسهم. تقدَم العلم، وتقدَم معه الارتياب في الثوابت واليقينيات والحداثات والديمقراطيات والحريات وقوانين حقوق الإنسان. استطاع الإنسان في آخر مكان على سطح الكرة الأرضية من خلال هاتفه الخلوي أن يتصل بلغات الإحساس والشعور بألم الآخرين، مع الذين يختلفون عنه إلا في وجود المعاناة وتجربة النضال لأجل الكرامة والحرية، أن يختبر قناعاته وأخلاقه ومبادئه وقيمه...

يقول الخبر: «... في موقف تاريخي غير مسبوق، قد يؤدي إلى تغيير مسار الحرب الإسرائيلية على غزة التي تدور رحاها منذ أكثر من مائة يوم، قدمت جنوب إفريقيا دعواها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إياها بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية.»

ومن ناحية أخرى، استطاع الشارع العربي وفي بقاع أخرى ضمن خطوط الطول، ودوائر العرض الوهمية في الكرة الأرضية، أن يعيد الإنسان إلى مخزون ذاكرته، ومعجم ألفاظه، وتراثه الغنائي، وأمثاله وحكم الأجداد، فيدفع إلى عتبات البيوت، وعلى كراسي المقاهي، وفي سيارات «التكاسي»، وفي حافلات النقل، وفي مهرجانات المسرح والسينما والإبداع والمنصات الافتراضية بعض كلمات هذه الأغاني، لتتصدر في يومه المتخم بأخبار النشرات وتزايد عدد الجرحى والقتلى والشهداء:

«يا رفح على خط النار، يا شعلة مجد وإصرار»

أو: «على عهدي على ديني، على أرضي تلاقيني

أنا لأهلي أنا أفديهم

أنا دمي فلسطيني»

أو: «لا تسل عن سلامته... روحه فوق راحته

بدلته همومه كفنًا من وسادته

يرقب الساعة التي بعدها هول ساعته

شاغل فكر من يراه بإطراق هامته

بين جنبيه خافق يتلظّى بغايته

من رأى فحمة الدجى أضرمت من شرارته

حملته جهنم طرفًا من رسالته

هو بالباب واقف... والردى منه خائف

فاهدئي يا عواصف خجلًا من جراءته

صامت لو تكلمَ... لفظ النار والدما

قل لمن عاب صمته خلق الحزم أبكمَ

وأخو الحزم لم تزل يده تسبق الفمَ

لا تلوموه قد رأى منهج الحق مظلما

وبلادًا أحبها... ركنها قد تهدمَ

وخصومًا ببغيهم... ضجت الأرض والسما

مر حين فكاد يقــتله اليأس إنما

هو بالباب واقف والردى منه خائف

فاهدئي يا عواصف خجلًا من جراءته»

(٣)

من مفارقات العبث والارتياب والشك، هذه الحكاية. يروي الكاتب الفرنسي (ألبير كامو) في روايته (الطاعون- ١٩٤٧) قصة رمزية غريبة الأطوار. إذ ينتشر مرض الطاعون في مدينة (وهران) الجزائرية التي نشأ الكاتب فيها وترعرع، فيجد السكان أغلبهم أنهم أمام هلاك سيؤدي إلى حتمية الهلاك، فلا مجال للاختيار، وعندئذ تصل شخصيات الرواية إلى نتيجة واحدة لا ثاني لها هي: أن مواجهة الموت هو القدر النهائي لها.

اليوم، ما يحدث في «غزة العزة»، ليس نهاية حتمية للتاريخ. هو شكل من أشكال إعلان البداية. السياسة تقول شيئا آخر، فتقدم تطمينات متناقضة. إلا أن ما يحدث في «رفح»، على خط النار، هناك خطوط أخرى: البرد والجوع والمرض والهلاك.

ثمة خطوط أخرى نراها، لكننا لا نتكلم عنها، ولا نقترب منها. لكن الواضح خلف هذه الخطوط جميعها: حكايات لم تروَ بعد.

وأخيرا...

عندما قال ألبير كامو: «إن أكثر موت يُعبر عن العبثية ويُمكن تخيله، هو الموت في حادث سيارة!» كان ألبير على حق. سيحلو لنا التندر أو التفكه والاستخفاف بكلام هذا الفيلسوف والكاتب المسرحي والروائي المعروف. قد يُستدرك بالأمثلة الشبيهة الأقرب إلى التبجح؛ فيعلق أحدهم: ماذا يعني أن يموت الإنسان في حادث دَهس سيارة أو انفجار طائرة، أو بقذيفة مدفع! لعل المشيعون لألبير كامو استدركوا بعد زمن وهم يودعون صديقهم وكاتبهم المفضّل ذي السابعة والأربعين عامًا، أن خوفه قد سبقه إلى ذلك، وأن الموت في حادثة للسير لا يُمكن أن تكون ميتة عادية!

لعلّنا إذا تأملنا كلامه بدقة، ومن زاوية غير زاويتنا، سنجده إلى حد ما كان يُعلي درجة الخوف من الخيال، ويخشى من عبث الحداثة القاتلة... من فشل العلم في تقديم الطمأنينة والسلام للإنسانية... مِن بشر رأسماليين جُدد لا يعرفون التَعاطف، ويعيشون في مدينة ميتة خالية إلا من الفئران... بشرٌ أقرب إلى الآلة، تُحركهم «ريموتات» افتراضية وغير افتراضية، بشرٌ بلا جلود ولا عظام...

فإذا استطاع ألبير أن يفهم أقصى ما تخيله خياله، فخاف منه، وتحقق له فلسفيا ووجوديا، فإن تلك المدينة المليئة بالفئران يمكن أن تشير اليوم إلى وجود إنسانية قادرة على مواجهة وعكتها، وأنها قادرة على تعديل قدرها المحتوم.

لقد فتك الوباء بالضحايا في كل المدينة، أجهز على جميع مظاهر الحياة، لكن شخصية الطبيب في الرواية وببساطة آسرة من العُقد الثقافية، والانتماءات الدينية، والمذاهب العقدية؛ حتى لا يتحول الكون والوجود إلى محض خرافة، هو القيام بما يجب عليه فعله، العمل من واقع وظيفته، إننا لسنا في حفلة عيد للعبث.