حرب البيانات

16 مايو 2023
16 مايو 2023

ترتبط البنى الأساسية للعديد من دول العالم اليوم، بالبيانات التي تجمعها عن مواطنيها وسكانها، الأمر الذي سهل على الحكومات وضع إجراءات قانونية وتنسيقية دقيقة، مما سمح لهذه الحكومات بتوسيع قدراتها المؤسساتية وجعل السكان أكثر قابلية للقراءة. الأمر الذي يتم استخدامه على نحو تسعفي أحيانا ليطال حرية المواطنين وانتماءهم، إلا أن الحكومات تستفيد أيضا من هذه البيانات لتحسين العديد من الخدمات المقدمة للسكان. ناقش هذا الموضوع دراسة مهمة نشرت مؤخرا على موقع carnegieendowment.org بعنوان «كيف يستخدم السلطويون العرب بيانات المواطنين لتعزيز سيطرتهم؟» وأحاول هنا مناقشة بعض الأفكار في هذه الدراسة وتلخيصها.

في بدايات القرن التاسع عشر اتخذت بعض الدول العربية مسارات جادة في بناء أجهزة إدارية تتحكم في أمنها وفي الفضاء العام، وانطوى على ذلك إشرافها المباشر على الخدمات الاجتماعية وتشكل الأسواق، وتعداد السكان وتسجيل المعلومات الأساسية عنهم، مما جعل المواطنين قابلين للقراءة بالنسبة للمسؤولين في الدولة. الأمر الذي دفع نحو تأسيس استراتيجيات جديدة لكل شيء بداية من المواد الغذائية وصولا للأحاديث والنقاشات الخاصة. لكنها وبطبيعة الحال لم تكن أدوات دقيقة، وغالبا ما اتسمت بالعشوائية ولطالما كانت عرضة للفساد، شملت آثارها إعانات غير موجهة، وأنظمة تتسم بعنف بيروقراطي، الأمر الذي كرس ظواهر مثل المحسوبية والرشاوي والوساطة غير الرسمية وغيرها.

تغيرت الطريقة التي يتم بها التعامل مع المناخات العامة في كثير من بلدان العالم، خصوصا وأن التحديات التكنولوجية كانت قد فرضت نفسها، وأصبحت الأنظمة الاستبدادية على وجه الخصوص في إزاء تغيير شامل يعد بطرق جديدة لمواجهة السلطات وتغييرها، ولعل الأحداث التي عصفت بالعالم العربي عام 2011 إحدى تمظهرات هذه المرحلة الحاسمة في تاريخ المنطقة الحديث. وبهذا فإن كثيرا من الحكومات اتجهت لمراقبة البيانات وتخصيص ميزانيات ضخمة للتعامل معها رغبة منها في استمرار تحكمها بالسلطة المفروضة على الحياة اليومية وتوجيه السلوك بطرق مواكبة للتغيرات التي حدثت بالفعل. كما أن هنالك أسبابا جيدة يمكن أن تقدمها هذه البيانات، مثل استهداف تعزيز تقديم الخدمات، أو إنتاج لوائح تنفيذية موائمة، ولم يقتصر جمع البيانات بطبيعة الحال على الآراء السياسية فحسب بل تم استخدام الهياكل الأسرية والخيارات التعليمية والممارسات الصحية بل وحتى استخدام المياه لإنفاذ هذه الرؤى الجديدة.

ولا شك أن الحديث عن خصوصية هذه البيانات بات في السنوات الأخيرة موضوعا مهما ليس للحكومات على مستوى العالم فحسب بل حتى الشركات على شبكة الإنترنت التي واجهت قضايا تتعلق بأمن وخصوصية المستخدمين، ولعل المحاكمة الأخيرة للمدير التنفيذي لشركة تيك توك في الكونجرس الأمريكي قبل أسابيع كانت الأبرز من بين تلك القضايا مؤخرا.

السؤال الأهم الذي يمكن أن نطرحه حول هذه المسألة، هو مدى تمكين المواطن المزيد من المشاركة والتمثيل السياسي عبر هذه المنصات وبذلك زيادة الثقة بين الحكام والمحكومين. لكن كثيرا من الحكومات لم تخض في هذا الطريق خوفا من التهديد القادم عادة من خطورة التمثيل الشعبي وعنفوانه. لذا استخدمت الحكومات هذه البيانات في تسهيل مراقبة «الامتثال»، توازى ذلك مع تحديات تتعلق بمدى فاعلية هذه البيانات بالفعل في أنها تسهل تحديات الحوكمة على سبيل المثال أو تفيد المواطنين حقا. الأمر الذي جعل هذه الحكومات تصبح أكثر فظاظة مما كانت عليه في مدى تسلطها على مراقبة «الامتثال» سابق الذكر. فاليوم يمكن أن تُسجن لمحادثة واتس اب شخصية مثلا أو لأنك انضممت لمجموعة مناهضة للسياسات العامة عبر الأنترنت حتى وان لم تتحدث فيها.

ومع تزايد حاجة الكثير من الحكومات للسيطرة على الفساد ومراقبة الضرائب وغسيل الأموال وغيرها فإن الاتجاه نحو المعاملات الإلكترونية خصوصا فيما يتعلق بالمدفوعات بات ملحا أكثر من السابق، وهنالك بالفعل العديد من الشركات حول العالم وإن لم تدخل سلطنة عمان بعد، بتنا نعدها بديلا أكثر مناسبة لمعاملاتنا المادية، إلا أنها في الوقت نفسه تراقب سلوكنا الاستهلاكي وتقدم بياناتنا الشخصية وتحركاتنا الأكثر خصوصية ودقة إما للحكومات أو للشركات التجارية التي تعيد تدويرها في حلقة مفرغة لا يبدو أن لها نهاية، تذكرنا باغتراب السوق الذي ذكره ماركس، تلك الفعالية التي تصبح للمنتجات بحد ذاتها بعيدا عن قدرتنا على فهم من أين تبدأ وكيف يمكن أن تنتهي.

ولعل أزمة جائحة كورونا أعادت حرب البيانات إلى الواجهة، إذ أن الدول التي فرضت برامج تتبع لكل مواطنيها استفادت وبشكل غير معقول من بيانات هائلة لا يزال التعامل معها يأخذ أبعادا جديدة كل يوم. ولا أظن شخصيا أن هذا يقتصر على العالم العربي وحده، فهنالك حديث عن تلاعبات تتعلق بالاقتراع في أنظمة انتخابية كبيرة على مستوى العالم، يتم فيها استخدام البيانات لصالح مرشحين بعينهم، الأمر الذي يجعلنا اليوم لا على كف عفريت تقليدي، فالعفريت هنا: البيانات ومن يمكنه حيازتها أولا ولم سيفعل ذلك؟