جهود المستشرقين في توثيق اللغات الجنوبية

30 يناير 2023
30 يناير 2023

حظيت اللغات العربية الجنوبية الحديثة باهتمام المستشرقين منذ القرن التاسع عشر، ونقصد باللغات الجنوبية الحديثة (الشحرية، المهرية، السقطرية، الحرسوسية، الهبيوتية، البطحرية) والمقصود باللغات الحديثة تمييزا لها عن اللغات العربية الجنوبية المنقرضة مثل السبئية والقتبانية والحميرية. تنوع اهتمام المستشرقين ما بين توثيق المفردات وتسجيلها وبين دراسة قواعد اللغات وأصواتها والتعريف بها في المؤسسات الأكاديمية وإخضاعها لمختبرات البحث والتدريس. ويعد الضابط البريطاني جيمس ريموند ولستد (1805-1842) أول المستشرقين الذين أشاروا إلى وجود لغات محكية غير العربية في جنوب الجزيرة العربية، وذلك بعد إقامته في جزيرة سقطرى، بعده كتب القنصل الفرنسي في جدة فولجينس فريسنل (1805-1842) عن اللغة الشحرية بعد لقائه في جدة ببعض الحجاج الظفاريين، وفي نهاية القرن التاسع عشر أرسلت أكاديمية فيينا للعلوم بعثة علمية إلى اليمن، وتمكنت من تسجيل وتوثيق ثلاث لغات (الشحرية،المهرية، السقطرية)، ولأول مرة يتم تسجيل نصوص كتابية وصوتية للغات المذكورة تضمنت قصصا وحكايات وأمثال وأشعار، ونشرت الأكاديمية بعض المؤلفات عن اللغات الثلاثة سنة 1915. وفي سنة 1937 تمكن الرحالة البريطاني برترام توماس (1893-1950) من تسجيل اللغتين الحرسوسية والبطحرية أثناء رحلاته داخل عُمان وكان يعمل مسؤولا ماليا في حكومة السلطان سعيد بن تيمور (1910-1972)، وبعده كتب الباحث البريطاني توماس موير جونستون ( 1924-1983) عن اللغة الهبيوتية سنة 1981.

اطلعت مؤخرا على كتاب (مقالات في اللغات المحكية في جنوب الجزيرة العربية) للدكتورة الفرنسية ماري كلود سيمون سينيل، ترجمة د. بشير زندال، من إصدارات مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث سنة 2021. يضم الكتاب عدة دراسات مهمة للمهتمين باللغات السامية العربية الجنوبية، افتتح الكتاب بمقدمة وأربع مقالات علمية، حمل المقال الأول عنوان حالة عامة عن لغات جنوب الجزيرة العربية الست، وتاريخها ومتحدثيها وحيوية اللغات المذكورة، أما المقال الثاني فكان عن اللغة الهبيوتية في اليمن، تطرقت الباحثة فيه إلى اكتشاف اللغة واسمها وخصائصها اللسانية. والمقال الثالث حمل عنوان اللغة السقطرية وأهميتها ومتحدثوها ومجالات استعمال اللغة وآدابها والأخطار المحدقة بها. أما المقال الرابع فكان بعنوان تعبير الانتماء والملكية في المركب الاسمي في لغات جنوب الجزيرة العربية الحديثة. وحمل المقال الخامس صيغة المستقبل في اللغات السامية الجنوبية، بينما عنونت مقالها الأخير بعنوان تكوين وتطور المساعدات (أدوات الربط) الفعلية في اللغات السامية: لغات جنوب الجزيرة واللغة المالطية بمشاركة الباحثة مارتين فانهوف.

إن الدراسات التي قدمتها الباحثة ماري كلود سيمون سينيل، ماهي إلا نزر قليل من دراسات وبحوث أكاديمية نشرها ثلة من الدراسين للغات السامية نذكر منهم جانيت واتسون، وميرندا موريس، وفيرنر أرنولد، وفيتالي ناومكين ، وأكيو ناكانو، وآرون روبين، وآخرين لا يتسع المقال لذكرهم. إن القيمة العلمية لجهود الدارسين والباحثين في اللغات السامية الجنوبية العربية الحديثة، تمنحنا نحن النطاقين بهذه اللغات خارطة علمية لكيفية دراسة اللغات دراسة علمية كعلم الأصوات (Phonetics) لمعرفة الحروف الصامتة ومخارج الأصوات الشفوية والأسنانية والحنكية والشدقية والحنكية والحلقية، والإدغام والصوائت. وكذلك التمكن من علم الصرف (Morphology) وهي الاشتقاقات وتصريف الأفعال وتصاريف اللواحق والسوابق التي تسبق الكلمة أو تلحقها، ومعرفة صيغ الماضي والحاضر والمستقبل، والضمائر الشخصية، وأسماء الإشارة، والأسماء وعلامات المؤنث والعدد والأعداد. أما في تركيب الجمل (Syntaxes) فلابد من معرفة ترتيب الكلمات وأداة التعريف والجملة الفعلية والجملة الاسمية والنفي.

إن المتأمل في خارطة اللغات العربية الجنوبية الحديثة يجد 5 منها منطوقة في سلطنة عمان، وكل لغة منها تضم ثقافة شفوية مهمة تتطلب التوثيق والاعتناء بها، وهنا نتمنى من المؤسسات الأكاديمية كالجامعات والكليات في سلطنة عمان إنشاء مراكز للدراسات اللغوية تعني وتهتم باللغات واللهجات في كل ربوع سلطنة عمان نظرا للتنوع الثقافي العماني الفريد من نوعه على مستوى العالم العربي.