جرح مفتوح
أشعر منذ بعض الوقت بأنني أعد جيدا للكتابة في هذه المساحة، في معركة صغيرة تحدث كل أسبوع للالتفاف حول «فكرة» ما واضحة، تتضمن لحظات جاهزيتي، القراءة مطولا والبحث في المصادر التي قررت ومنذ فترة أنها تنطلق من المقدمات ذاتها التي أعتقد أنها راسخة لدي في هذه المرحلة من حياتي. مع أنني وقبل سنوات مرت منذ أن كتبت هنا لأول مرة كنت أراوح بين تنويعات في الكتابة بين الشخصي والموضوعي -وإن كانت هذه التفرقة غير دقيقة بالمطلق- ربما لأنني أحاول الهرب من الوقوف مطولا عند ما أشعر به، وقوف الجاهلي على طلله واحتضاره هناك، جسدتْ الكتابة الشخصية نفسها لي.
من ناحية ثانية أستطيع اعتبار هذا نوعا من الثورة، في زمن الكلام المرسل، أن أصمت قليلا، وفي زمن التعبير عن الذات، أن أشيح بالنظر نحو الأشياء التي تحدث في الخارج، مع أنها طوال الوقت تعكس لي حياتي كلها -أعني تلك الأشياء- كما أؤمن على الدوام. وبدا لي أنني أحاول رمي حجارة في المياه الراكدة، أن أقول شيئا ما يمكن أن يثير التفكير لدى من يقرأ لي هذه المساحة، لكن سرعان ما أشعر بالهزيمة، وبأنني لا أملك حجارة ولا حتى هواء، وبأن المياه قد لا تكون راكدة كما أظن. ثم إنني أحاول صرع فكرة النبوة هذه، كمن يطرد عن نفسه رجسا من الشيطان. أعرف جيدا بأن ما أحاول قوله هو التواصل معك أنت أيها القارئ، بصفتك ندا مكافئا، ربما لتستطيع رؤيتي، وقراءة موقعي من كل ما يحدث، علّ هذا يجعلنا نعيش في عالم أفضل أنا وأنت.
لماذا أكتب هذا الآن إذن؟ ربما لأنني تعبت، وأشعر بأنني لا أريد الكلام مطلقا، شيء ما يحجب عني الأفق، ويحبسني داخل قمقم صغير وضيق، يبدو لي فيها أن «الطريق مسدود» وأنني وكعادتي لا أرغب في أن أذهب في رحلة غير مضمونة الوصول، وبأن سأمي يحول دون الاستمتاع بالرحلة، ذلك «الكليشيه» الذي كثيرا ما يصبح محببا بالنسبة لي، في نوع من محاولة بث روح العزاء والتفاؤل. ولأنني وانسجاما مع ما كتبته هنا على الدوام، عن أهمية تطبيع الخوف، وتطبيع التعب، وتطبيع التراخي في كل صوره، أقول هأنذا متعبة ومهزومة، فلا بأس بذلك، وأن قول هذا أهم، من محاولة تلفيق «كلام» ليكون في هذه المساحة الأسبوعية.
الكتابة عمل شاق للغاية، لا أعرف لم يعتقد كثير من الناس بأنها ليست كذلك؟ إنها تتطلب نوعا من الاتصال بالعالم مثلا، الذي يصبح مجهدا شيئا فشيئا، وهي كذلك عمل كاشف، يعري كاتبه، وأفكاره، إنها إعلان صريح بالذات، مهما كانت الكتابة خافتة، ومهما كان موضوع الكتابة دقيقا وصغيرا، الكتابة جرح مفتوح -جملة كبيرة ألا تتفق معي؟- إذ إنك ولتمسك بتلابيب الجملة الأولى عليك أن يكون «موجودا» لديك ماهية تتمظهر عبر اللغة المكتوبة. يتحايل كثير من الكتاب على الأمر، عندما يحين موعد تسليم المقال أو النص، عن ماذا ترى سأكتب اليوم؟ ليس لدي ما أقوله. ومع ذلك عليه أن يقول شيئا ذا معنى.
أتذكر بهذا الصدد، سؤالا وجه للكاتب النرويجي كارل أوفه كناوسغارد عن الفرق بين الجزء الأول من كتابه «كفاحي» موت في العائلة وكتاب بيتر هاندكه الذي ترجمه للعربية الشاعر الرائع بسام حجار بعنوان «الشقاء العادي»، فكتاب كناوسغارد عن وفاة والده أما كتاب هاندكه فعن انتحار والدته. كان وصف هاندكه لهذه الحادثة يحدث «بالكامل من الخارج وبطريقة غير عاطفية وعديمة الرحمة» هذا ما كتبه كناوسغارد عن هذا الكتاب، فهل تمنى بأن كتابته هو الآخر عن والده كانت أكثر قسوة؟ أجاب كناوسغارد بأن هاندكه لم يمثل والدته أبدا في النص، بينما يصف هو والده وتحركاته بل إنه وبطريقة ما يعيد إنشاء خطاب والده في «كفاحي». كان نجاح هاندكه يتجسد في تمثيل العالم بصدق كامل بدون استخدام الحيل التقليدية للرواية بحسب كناوسغارد.
هذا يقول ما أريد كتابته هنا، إن الكتابة لعبة، لكنها مغوية بالنسبة لكاتبها أيضا، إذ يمكن استخدامها دوما للتلاعب بالناس كما اعتقد كناوسغارد أنه يفعل للشعور بما يشعر به تجاه والده، إنها إذن نوع من المساهمة الحرفية في تعميق الشعور بالذنب، تجاه تقديم الذات ورؤيتها تتفاعل على مسرح الحياة، إنها نوع من العيش، ممارسة مباشرة له، وتتضمن بنفس قدر منحها الكثير من النعم بالنسبة لنا، الكثير من تعميق الأسف والإحباط والشرور والأنانية. لذا يمكن ولأنني ببساطة أريد أن أقفل باب العالم عليّ، فأنا أصمت عن الكتابة لأنني أتوقف عن العيش وهذا ما أريده الآن. من جهة أخرى فإن هذا السؤال الذي أجاب عليه كناوسغارد، يشير في إجابته إلى ناحية مهمة، وهو «الإعراض» بوصفه مواجهة، «الحياد» بصفته موضعة جديدة للدخول في المعركة، إن ذلك الحس غير الرحيم لهاندكه في كتابته عن أمه، والذي يعد سمتا مهما في أسلوبه الأدبي، هو بطريقة ما، إقدام نحو حلبة الصراع، لكنه إقدام فردي، جامح، خاص، ويعاند السلطة من «داخلها». ليقع الخصم سواء كان اليأس أو الألم صريعا بعده.
لا أعرف إن كان ما كتبته هنا سيثير اهتمام أحدكم، ربما لن يفعل، لكنها قيامتي، التي أحاول بها، ربما أن أعود للعبة العيش تلك من باب خلفي، يكون فيه الإعراض إقداما!
