جدل العرض المسرحي بين الإخراج والتلفيق
ما الذي يبقى من العرض المسرحي؟
سؤال أكثر عمقا: ما الذي يبقى لدى الجمهور من العرض المسرحي؟
هل يتطور المسرح بقرار سياسي رسمي؟
هل تتقدم الحركة المسرحية بفعل مواكبة الجمهور للعرض واستمرارية تقديمه في أكثر من بلد أو إقليم أو ضاحية؟
المهرجانات المسرحية هل أسهمت في تفعيل المشهد المسرحي العربي بخلق جماليات للعرض أم ساعدت على تكريس أنماط استهلاكية من لغات عروض بصرية متعددة؟
الحداثة، والتجريب، والدراما، وما بعد الدراما، كمفاهيم ومصطلحات، ماذا حققت للعرض المسرحي في مجتمعاتنا؟
الكتابة المسرحية التي ضحت بالقيمة الفكرية والاجتماعية والسياسية لمحتوى النصّ ما الرّهان المجتمعي الذي راهنت عليه؟ إذا كانت الأيديولوجيا خطرا على الممارسة المسرحية فهل أسعفت «الإضاءة والكهرباء والرقميات والأجساد والفضاءات» على تبليغ شيء ما؟
هل توارت أزمة النصّ المسرحي؟ لماذا اللجوء إلى الإعداد أو اقتباس الأفكار الدرامية لتقديمها على العرض تحت دعاوى الانفتاح على الخبرات العالمية ليتبين في آخر المطاف أن جملة من أفكار النص الدرامي، والإخراج المسرحي، والأداء التمثيلي كلها مجرّد سرقات من عرض أقيم هنا أو هناك، أو من نص شارك في مسابقة في بلد الواق واق، وأن الممثل وأداءه كان تقليدا أعمى لأداء ممثل آخر؟ وأن الإضاءة والأزياء والموسيقى والمؤثرات الصوتية أيضا قلدها الفنيون بعدما شاهدوها في عروض مسرحية سابقة فسارعوا إلى التركيب المسروق سلفا من سارقين قبلهم، وعلى ذلك تنافس المتنافسون؟ هل يجدر بلجنة تحكيم أن تمنح فنانة قادمة من فرقة شعبية يقتصر غناؤها على الاحتفالات والأفراح والليالي الملاح أن تمنحها اللجنة جائزة أفضل ممثلة دور أول؟ وأن البهلوان القادم من السيرك العالمي أو الشعبي يستحق جائزة أفضل ممثل دور أول؟ وهل يجوز لمخرجة تقتات على جلسات النقاد في المقاهي وصالات الفنادق، ولم تمتهن في حياتها الإخراج يوما أن تدفع بعرض مسرحي مبنيِّ على تهويمات ملفقة من كوابيس وهلوسات ونزوات نرجسية لتضع اسم منتسبة عندها في فرقتها المسرحية كمخرجة للعرض حتى تحافظ المخرجة المُلفقة على ماء وجهها إن فشل العرض في اقتناص جائزة من المهرجان؟ هل يجوز لناقد محسوب على المسرح أن يراوغ كذبا وزورا وبهتانا بين المسرحيين فيتحدث عن أخلاق النقد والمسرح والتكوين، وعند أول فرصة تتاح له إزاحة من يغار منهم، لا يتردد قيد أنملة؟ ومتى سيتوقف الطارئون على الفعل المسرحي عن الشكوى والابتذال وامتهان النفس كلما سنحت لهم فرصة لإظهار عقدة التباكي؟ ومتى سيزاح القناع عن المخرج الذي يستعين بكفاءات إخراجية أجنبية أخرى لتدرّب له ممثليه؛ فتعلمهم وترسم لهم خطوط حركتهم على الخشبة، ثم يتصدّر المخرج المنشغل بتجارته صدارة الجوائز، والمهرجانات والتكريم والدعوات؟ ومتى سيترك أعضاء إدارة مؤسسات الثقافة صلبانهم ليفسحوا المجال لأفكار جديدة من الشباب المتجدد لإدارة المؤسسة والابتعاد عن تصفية الحسابات بين هياكل المؤسسة التي أغلبها يكون على حساب المسرح.
وعلى هامش هذا كله، أين هي الممارسة النقدية المتابعة للعروض والإصدارات المسرحية (خارج دائرة الشللية والانتماءات الضيقة) ألا يتجدد الكلام على منابر التواصل الافتراضي عن غياب النقد في ظل تصاعد الهجمات الشرسة ضد كلّ من ينتقد عملا أو كتابا أو يقول رأيا نقديا منهجيا فيصير غير مُرحب به من عقلية القطيع!
***
تدور معاني لَفَقَ في معاجم اللغة العربية وقواميسها حول الثوب «إذا ضمَّ شِقة منه إلى أخرى وخاطهما»، و«لفق الشخص الكلامَ أو الحديث: اختلقه، زخرفه وموَّهه بالباطل»، أو «لفقتُ، أُلَفِّقُ ومصدره تلفيق؛ لفق الرجل: طلب أمرا فلم يُدركه»، ولفق فلان: طلب أمرا فلم يُدركه ولفق الشقتين ضم إحداهما إلى الأخرى فخاطهما ومنه أخذ التلفيق في المسائل، ويقال لفق بين الثوبين لاءم بينهما بالخياطة والحديث زخرفه وموهه بالباطل فهو ملفق.» حاشانا، وحاشاكم، وحاشا المسرحيين جميعا من التلفيق ومزالقه. كما جرت العادة في تصدير المؤلفات الإبداعية رواية كانت أو مسرحية أن يُكتب المؤلف أو المؤلفة للقراء هذه الصيغة: إن وجود أي تشابه بين الشخصيات والأحداث في الرواية هي غير مقصودة ولا تمت لأحد في الواقع بصلة مباشرة، وهي جملة احترازية بسبب ما آلت إليه بعض الروايات عندما ذهبوا إلى أروقة المحاكم يدافعون عن الخيال أمام القاضي! وعطفا على هذه الجملة الاحترازية هل نتخيل يوما أن يضع مُخرج العرض المسرحي عبارة تقول: إنّ العرض المسرحي بعيد عن الواقع، قريب من الخيال، ولا يمت لأيّ عرض سابق بصلة، فيحمي نفسه من مزالق التشابه بين عرض وعرض آخر شاهده، أو يجنّب لجنة الحكم والجمهور والمعقبين على العرض تهمة التلفيق المقصود مع سبق الإصرار والترصد؟
كنتُ في نقاش حول هذه الجزئية مع آخرين، الذين وجدوا صعوبة في تنفيذها. فهم يضعون أنفسهم في مكان المخرج المسرحي المعاصر، ويرون أن العرض المسرحي هو مجموعة من العروض السابقة، وينتج ذلك بفعل المثاقفة وتراكم الخبرات. وفريق آخر يرى أننا عندما نقول إن وجود عرض مسرحي صاف خال من التشابهات هي أقرب إلى قولنا بوجود مسرح خال من الاشتباك مع ثقافات عميقة وسحيقة غائرة في القدم. لذلك هم يبررون أو يخلقون الأعذار لاشتغال بعض المخرجين على العلائق المشتركة لبعض عناصر العرض!
لا شك أن العرض المسرحي هو مجموعة عناصر منها نصّ التأليف، وطاقم الممثلين، وطاقم الفنيين والخشبة، والبروفات والدعم اللوجستي والجمهور. إن جميع هذه العناصر تدخل في تقديم العرض المسرحي الذي نُحييه ونصفق له واقفين، لكنها لا تعني بقاءه أمدا طويلا، لخصائص العرض وطبيعته المرّكبة.
وعطفا على مواصلة النقاش، فالتلفيق الذي يحاول المتفذلكون تبريره والتغافل عن تسمية الأشياء بمسمياتها هو أقرب إلى البذاءة والضجر. إن علامات العرض المسرحي بفعل الإخراج المتجدد والرؤى المتطورة يمكنها أن تجعل للعرض تفسيرات جمالية متشابكة، لكن مهمة المخرج الذي يولي إخراجه للعرض مركزا اختلاق مشاهد أدائية مكررة أو مساقط ضوئية مسروقة من عروض أخرى فهذا يسمى تلفيقا، لا إبداعا، ولا تجريبا، ولا ابتكارا، فكم من مشهديات في عروض بعض المهرجانات فبركها المخرجون وأضافوها لعروضهم المسرحية بلغات مموَّهة، لاقتناص جائزة للممثلة أو للديكور فيحقق بذلك المخرج المُلفق الأمر الذي طلبه فأدركه.
يسأل أحد المناقشين ألا يمكن للجان التحكيم أو التعقيب على العروض أن تملك ترمومترًا أو آلية معينة لفحص العرض المسرحي؟ ألا تتوفر آلية لكشف الأصيل عن الدخيل في العرض المسرحي؟ ألا يُمكن إلغاء فكرة التسابق على الجوائز كحلول تعيد للعرض المسرحي بهاءه، ولاشتغال المخرج على الممثل قيمته؟
ختاما، لهذا المقالة المؤرقة والمريرة، تذكرت تحليلا سأعدّه إجابة على الأسئلة السابقة، فبالعودة إلى الفصل الثالث المعنون (الثقافة والحضارة) من كتاب نظام التفاهة لمؤلفه ألان دونو Alain Deneault أقتبس هذه الفقرة الدالة: «إن سرد فالاردو Falardeau الشهير في فيلم زمن المهرّجين يفعل ما هو أكثر من مجّرد إعطاء موقع ذي أفضلية لرؤية المشهد الذي صرنا، للأسف، معتادين عليه.» نعم، لقد صرّنا معتادين عليه..
