ثمانية مليارات نسمة.. وأصل النبوءة المالتوسية

28 نوفمبر 2022
28 نوفمبر 2022

15/ 11/ 2022م.. (أعلنت الأمم المتحدة وصول عدد سكان العالم إلى 8 مليارات نسمة، الأمر الذي يشير إلى تحسن كبير في الصحة العامة أدى إلى تقليل مخاطر الوفاة، وازدياد متوسط العمر المتوقع. لكن هذه اللحظة تمثل أيضا دعوة واضحة للبشرية للنظر إلى ما وراء الأرقام، والوفاء بمسؤوليتها المشتركة لحماية الناس والكوكب، بدءا من الفئات الأكثر ضعفا) [الأمم المتحدة، الموقع الإلكتروني]. الإعلان.. يعطي مؤشرا بأن الأرض بخير سكانيا، وأن البشر بعددهم هذا لا يشكلون عبئا حتى الآن على الكوكب الأخضر. ولأنه لا يمكن فصل تعدادهم عمّا يلاقونه في حياتهم؛ فإن زيادتهم تشير إلى أهم مكسب للإنسان، وهو تمتعه بالصحة وزيادة معدل عمره. وهذا يغطي على مشاكل أخرى قد يكون العدد الضخم سببا لها. بل يكاد المرء يقول: إن هذه المشاكل ما هي إلا دعاوى سياسية تلعب بها الدول ضد بعضها البعض.

يفصلنا عن الإنجليزي توماس روبرت مالتوس(ت:1834م) الذي أطلق صرخته المحذرة من التنامي السريع للبشر حوالي 200 عام بفارق 7 مليارات نسمة. عند التحاقي بالصف الأول الابتدائي عام 1975م كان تعداد العالم 4 مليارات نسمة، أي استغرق قرنين ليزداد 3 مليارات، ولم تستغرق 4 مليارات نسمة سوى نصف قرن. إن جيلنا أوفر حظا لمعرفة التطورات التي صحبتها هذه الزيادة المذهلة، من مالتوس الذي أعلن بأن البشر يتناسلون بمتوالية هندسية: [1، 2، 4، 8،...]، وأما إنتاج الطعام فيربو بمتوالية حسابية: [1 ، 2، 3، 4،...]، لقد شهدنا تضاعف عدد البشر، وهو ما لم يشهده مالتوس.

لا أنكر بأن لمالتوس بإطلاقه هذا التحذير سبقا في التنبيه على هذه المسألة، مما استتبعته جهودٌ كثيفة قللت من الفجوة بين البشر وما يأكلون. لكننا اليوم نستطيع الحكم على الوضع بأفضل منه، وهذا يعود إلى التطور التكنولوجي الذي قفزته البشرية خلال المدة التي تفصلنا عنه، فإن كان ذلك التحذير احتاج إلى تبصّر فيلسوف؛ فإن الحكم عليه يمكن أن يبصره الآن أي متابع لهذا الموضوع. وذلك؛ عائد إلى قلة توفر المعلومات حينها من أصقاع الأرض، بسبب عدم وجود إحصاء شامل للبشر. أما اليوم؛ فيكاد نتابع لحظة بلحظة زيادة المواليد والوفيات والأمراض، ومعدلات إنتاج الأطعمة، وطرائق إنتاجها وإتلافها، والجوع والشبع.

السؤال: كيف اصطنع مالتوس رؤيته حول التعداد السكاني؟

قبل الإجابة؛ علينا أن نتذكر أن مالتوس هو مَن رسم خيالنا حول الزيادة السكانية، وهو خيال مثير للقلق. لقد تحولت رؤيته إلى أيديولوجيا، استعملتها الحكومات في إيصال ما تريده إلى شعوبها، ويكفي أنها أُدخِلت في المناهج الدراسية، باعتبارها حقيقة ناجزة. وأكد ذلك؛ أنه عند دراستنا لها كان الإعلام ينقل للعالم أخبار وحش المجاعة الذي ينهش أجساد محرومي العالم. ومع عدم نكران وقوع المجاعات؛ لكننا أصبحنا ندرك أن تسويق تلك المشاهد لم يكن الغرض منها إيقاظ الضمير الإنساني بقدر استغلال الصورة المؤلمة في حرب كبرى، لا تعني الجوعى أنفسهم شيئاً، إلا لأن القدر رمى بهم تحت أسنة حرابها.

مالتوس.. ربما لم يتوقع أن رؤيته سوف تتحول إلى عقيدة سياسية؛ تستغل في أكثر من جبهة، بما في ذلك؛ جبهة العنصريين الذين اتخذوا منها «هولوكوست» لتصفية خصومهم. كما استغلتها الحكومات في تبرير فشلها في القضاء على الفقر. واليوم؛ هناك قطاعات من البشر مستسلمة لقدرها المالتوسي، وتنتظر معجزة انخفاض عدد السكان لتتنزل عليهم مائدة الرفاه.

يمكننا أن نعد مالتوس متنبئا، من نوع «الذين يضربون بحجر الودع» وهم يقرأون طالع المستقبل، فهو لم يملك معلومات دقيقة أو ملاحظات تجريبية على الوضع السكاني حتى يبني رؤيته علميا، نعم؛ لم يعدم من بعض الملاحظات الواقعية، فقد كان العالم قد وصل إلى درجة من الإنجاز التقني وسرعة التواصل، لكن ليس بالدرجة التي تؤهل مالتوس أن ينظّر للمستقبل، كما لا يوجد ربط بين الحالة السكانية وما يقيم أودها من القوت. ومع كل هذا استطاع لأول مرة أن ينبه العالم لوضعهم الغذائي وما يتهددهم من جوع؛ إن لم يتمكنوا من المواءمة بين زيادة السكان ووفرة الغذاء.

لا ينبغي أن ننظر إلى مالتوس ورؤيته بعين اليوم، وبما توصلت إليه البشرية من قفزة هائلة في كل جوانب الحياة؛ حتى اخترقت آفاق الفضاء، وأصبحت قاب قوسين من سكنى أقرب كوكب تواتي فيه الحياة. وإنما علينا أن نقيّم الوضع بما كان عليه هو ذاته. فمالتوس.. نشأ نشأة دينية، وكان متهيئا بأن ينصّب قسيسا، إلا أنه اتجه لتدريس التاريخ والاقتصاد السياسي. اجتماعيا.. عاش مالتوس مرحلة شهدت الثورة الفرنسية عام 1789م، التي انفجرت بعد انسداد آفق تحسّن معيشة الناس وطريقة عيشهم بحرية. وفكريا.. عايش مفتتح عصر الليبرالية والديمقراطية، الذي مهّد له الفلاسفة التنويريون، الذين كان بعضهم أصدقاء له.

من خلال هذا الواقع الذي عاشه مالتوس؛ هناك عوامل أثرت عليه في تكوين رؤيته؛ منها:

- اشتغاله بتدريس الاقتصاد السياسي، مما دفع به إلى التنبيه بأن بطن الإنسان هو أحد محددات التوجهات السياسية القادمة، فمن يتحكم بلقمة العيش يسيطر على الاقتصاد، ولا يخفى أن مبعث هذا هو الفكر الرأسمالي.

- تربية مالتوس المسيحية التي تمجّد التبتل، وهي وإن كانت متنافية مع غريزة الإنسان الجنسية، إلا أنها ليست مانعا من أن ينطلق الإنسان من معتقده في صوغ أفكاره. بل هو الأصل في التفكير.

- البُعد الليبرالي، الذي يحمّل الفرد تبعة زيادة السكان، وليس المجتمع أو الدولة، ربما لأنه لا يريد أن يعطي المجتمع مدخلا للهيمنة على حرية الفرد. لكن ما حصل هو أن المالتوسية أخفقت في الحد من تدخل الدولة، التي تسيطر على الفرد باسم القانون، بتحديد عدد المواليد الذين يسمح للزوجين بإنجابهم. وقد طبقت هذه السياسة في بعض البلدان كالصين والهند، وشجعت دول أخرى على المباعدة بين الولادات.

إن الرؤية المالتوسية قامت بالمقام الأول على أسس فكرية وبدوافع سياسية، مع معلومات غير كافية لبلورة نظرية قادرة على تحديد مسار المستقبل في العلاقة بين ما يبتلعه الفم وما تنتجه اليد من غذاء، ولذلك؛ استطاعت من الناحية الفلسفية أن تؤثر على التفكير الإنساني، حتى تحولت إلى عقيدة أشبه بالمسلّمة الكونية، ورغم النقد الموجه لها؛ بل ضعف الالتزام بها، إلا أنها لا زالت تشهر في وجوه الناس إلى اليوم. كما استطاعت أن تضع بصمتها في عالم السياسة، فقد استغلتها الحكومات في تمرير أجندتها وإدارة مشاريعها.

لقد أثبتت الأيام أن ما حدث هو عكس ما تنبأ به مالتوس، وأن رؤيته عفا عليها الزمن في قراءة التحولات السكانية. فالصين.. مثلاً؛ وهي البلد الأكثر سكاناً في العالم، تمكنت من تخطي حاجز الفقر.

المقال.. لا يستبعد المشاكل التي تسببها زيادة المواليد، هذا أمر لابد من أخذه في الاعتبار، فكون المنتج الغذائي قادرا أن يسد رمق البشر؛ يجب ألا ينسينا المشكلات المتولدة عنها، من مثل مربع الجوع والفقر والمرض والأمية، الناتج من اختلال ميزان توزيع الموارد، بوضع حلول لها: بالاستفادة من الثمار والأطعمة التي تتلف بدعوى المحافظة على الأسعار، والتي تشكّل ثلث إنتاج الغذاء عالميا. وبالعناية بصحة الأطفال وتعليمهم وتربيتهم.

إن زيادة التعداد السكاني ينبغي أن تتحول من النظرة السوداوية إلى خطط واعدة للتنمية يقوم بها اقتصاديون يتمتعون بالعلم والخبرة والنزاهة. وأن يبني الفلاسفة نظرية أخلاقية تدفع بساسة العالم إلى التزام العدالة الاجتماعية، وتطوير آليات التعاون بين دوله لصالح الإنسان ومستقبله.