"تقريبًا منمنحكي بشي تاني"
بهذه العبارة -التي أصوغها بتصرّف- أجاب زياد الرحباني حين سأله المذيع: إذا زرتَ السيدة فيروز، ألا تسألك: "يا أمي ليه ما تزوجت؟". هذا سؤال يقود إلى فكرة أن العائلة "تنقرض" إذا ما في سُلالة.
ثم أضاف بنبرة تجمع السخرية والمرارة: "بدك تقنع أمي تتزوج ودغري تجيب ولد".
هذا الجواب الذي يبدو بسيطًا يفتح بابًا واسعًا للتساؤل عن صورة فيروز الأم، في مقابل صورتها الأيقونية التي نعرفها جميعًا.
ويأتي هذا السؤال في شهر نوفمبر الذي تتزاحم فيه مناسبات الفرح والحزن معًا: استمرار حرب الإبادة في غزة، وتصاعد التوتر في لبنان، وحادثة وفاة عائلة عُمانية في حريق مؤلم، وفي المقابل تحلّ ذكرى ميلاد السيدة فيروز المسجَّل في الوثائق بتاريخ 21 نوفمبر 1935، رغم الجدل الدائم حول دقة هذا التاريخ.
لكن مهما قيل عن أصولها -لبنانية أم فلسطينية- يبقى الثابت هو صوتها الذي وصفه مصطفى محمود بأنه "صوت جميل ومثقّف"، ووصفه عبدالوهاب البياتي بـ"الصوت الملائكي"، ونزار قباني بـ"فيروز ليست مطربة... فيروز وطن"، ومحمود درويش بـ"صوتها صلاة"، أما زياد فوصفه بأنه "آلة دقيقة... ما بتغلط". وكان أجمل ما قرأته هذا الصباح عن صوتها وذكرى عيد ميلادها ما كتبه المسرحي عبيدو باشا على صفحته في الفيسبوك: "لن تحترق أعوام فيروز؛ لأنّ صوتها صوت بلا فصاحة..."، كأنّ صوتها خارج العمر والزمن.
ويرتبط صوت فيروز بالصباحات الأولى التي يفتح فيها الناس نوافذهم على يوم جديد. في أحد لقاءاتها النادرة في السبعينيات سُئلت: "لمن تسمعين؟" فأجابت بخجلها المعروف إجابة بسيطة تحمل رمزية ومجازا عاليا: "أسمع صوتي من الشبابيك." لم تكن تشير إلى صورة متعالية، بل إلى حقيقة تتجدد يوميًا: أن أغانيها تأتيها من نوافذ البيوت، ومن مذياعات السيارات، وفي المقاهي الشعبية والراقية.
نحن الذين نذهب إليها، صوتها جزء من حياتنا اليومية، يتنقّل معنا في شوارعنا، ويصنع ذاكرتنا المشتركة التي تمتد من طفولتنا إلى مراهقتنا.
ومن هنا ارتبط صوتها بفلسطين، عبر أغاني: زهرة المدائن، سنرجع يومًا، القدس العتيقة... فصار كثيرون يشعرون أنها فلسطينية بالانتماء، مهما كانت جذورها الحقيقية.
من سؤال الصوت إلى سؤال الأمومة ينتقل التفكير ببطء إلى صورة فيروز الخفيّة: هل يمكن أن تكون أمًّا صارمة في علاقتها مع زياد، تتمنى له الزواج والإنجاب؟ لقد عرفنا فيروز الفنانة الملتزمة على المسرح: امرأة شامخة، أنيقة، يظهر حضورها كطقس جمالي مستقل.
وتُظهر المقاطع المسرّبة بعد وفاة زياد في 2025م التزامها بالبروفات، واعتدادها بذاتها، وابتسامتها الآسرة.
هذه الصورة المثالية التي أحببناها واحترمناها تجعلنا نتساءل -بحذر المحبّ- هل تُخفي شيئًا من الصرامة الأمومية التي لا تنفصل عن الخوف على الابن الذي كانت علاقته بها الأكثر تعقيدًا وخصوصية؟
"شو بدي بالبلاد؟
الله يخلي الولاد".
إن رغبة الأم في أن ترى أحفادها رغبة إنسانية عميقة، ومشروعة في سياق عاطفتها الطبيعية، لكنها -في مجتمعاتنا خصوصًا- تختلط بطبقات من التفكير الموروث. كثيرون ينظرون إلى زواج الأبناء وإنجابهم بوصفهما امتدادًا للتاريخ العائلي، لا امتدادًا للحياة نفسها.
وكأن الفرحة لا تكتمل بولادة فرد جديد، بل بتحقّق شكل من أشكال الاستمرار الذي تمنحه الأعراف قداسة خاصة، تمدّ جذورها في أسرار البيوت وصراع العائلات على إرث رمزي أكثر منه حقيقيًا. وهذا كله قد لا يعني كثيرًا للأبناء المعاصرين الذين يعيشون في شروط مختلفة، ولا يُشغلون بالتمدد العائلي في صورته التقليدية.
في ضوء هذا الإرث يمكن فهم إجابة زياد الرحباني: "تقريبًا منمنحكي بشي تاني". فهذه الجملة تكشف -من طرف خفي- أن موضوع الزواج والإنجاب ظلّ حاضرًا في علاقته بوالدته، باعتباره الهاجس الذي يختصر خوف الأم من انقطاع السلالة، ومن الفناء الرمزي للعائلة. ولا يتعارض هذا الهاجس بطبيعته مع المشروع الثقافي الكبير الذي حملته فيروز والرحابنة؛ بل يكشف الوجه الإنساني الخالص خلف الصورة الأيقونية.
من هنا ينفتح الباب على سؤال أكبر: هل نملك حرية حقيقية في خيارات حياتنا؟ عبارة زياد "منمنحكي بشي تاني" توحي بأن موضوع الزواج والإنجاب يعود ليتكرر كنوع من القدَر الاجتماعي الذي يسبق كل نقاش.
وهذا ما يذكّرني بمرتكزات الفيلسوف برتراند راسل الذي يرى أن الإنسان يولد محكومًا بثوابت لا يملك تغييرها: المولد، الاسم، الجنس، الوراثة، الحقبة التاريخية، الثقافة، والموت. الحرية -في رأيه- ليست كسرًا لهذه الثوابت، بل طريقة الاستجابة لها.
لذلك تبدو صرامة الأمهات، مهما غُلّفت بالحب، كنوع من القيد الحريري الذي يذكّر الأبناء بأن الحرية المطلقة وهمٌ جميل.
بعد هذا التأمل الفلسفي، تعود ذاكرتي إلى سنوات دراستي في الأردن. لم يكن هناك مكان يخلو من صوت فيروز: من المقاهي إلى شرفات البيوت، ومن الحافلات إلى الشوارع الباردة في الصباح. كنتُ أشتري الكاسيتات الأصلية لحفلاتها، أحملها معي إلى صلالة، وأستمع إليها في السيارة، أو في بيت العائلة.
وعندما يسمع أهلي أغنيات مثل "حبيتك تنسيت النوم"، و"أنا وشادي تربّينا سوا"، و"لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي"، و"حبوا بعضن... تركوا بعضن"، و"شايف البحر شو كبير"، كانوا يكتشفون فيروز التي لم يكونوا يعرفونها من قبل، ويُعدون اكتشافها عنصرًا جديدا أضيف إلى البيت، ويقولون إنها "لا تغني كلمات صعبة... هي تحوّل الكلام البسيط إلى موسيقى". تلك البساطة هي جوهر سحر الرحابنة.
لم تُخفِ كتابات الصحافة ومواقع التواصل الافتراضي وجود فترات فتور وتباعد بين فيروز وزياد. وقد كتب عبيدو باشا في نصّ حفّزني على كتابة مقالتي: "أوحشها الخصام مع عاصي ومنصور، لكنه لم ينحدر إلى أعماقها؛ لأنها بقيت كغصن من أغصان الأخوين، إلى أن جاء زياد محطّتها المحمومة نحو القيادة الجديدة... لا شك أنها تفتقد شهيد البساطة، إلا أنها لن تخذله، ما دام صوتها جزءًا من عناقه حتى في غيابه. ما دام صوتها هُوية لا طريقا فقط".
وصف "شهيد البساطة" يلخّص حجم الصدمة برحيل زياد، ويكشف أهمية وجوده داخل عائلة صغيرة مكونة من أفراد يحيون معًا في بيت يتبادلون الضحك في أثناء تناول الوجبات، ويتبادلون النكت والخواطر والمقالب والموسيقى في بساطة ويُسر.
وفي مساء بارد كنت أستمع إلى "رجعت الشتوية" وأفكر: كيف يمكن لصوت قادم من جبال لبنان أن يصنع حكاية في ظفار؟ وكيف تجمعنا فيروز في بيت واحد رغم تباعد الجغرافيا؟ كلماتها -وإن كانت عن عاشقين- تحتفي بالبيت والطقس والبرد والمطر ونداءات العصافير وطقوس العائلة وقصص الهوى، فوق أدراج البيت وعلى الأبواب، وهكذا، سنظل نحكي عن أشياء كثيرة عالقة في الوجدان، مع صوتها الذي صار وطنًا صغيرًا يسكننا جميعًا.
وفي ذكرى ميلادها نقول لفيروز: للعمر كله حب وجلال. ونستعيد ما قاله الشاعر وديع ديب:
"صوتُها كالوحيِ في غمرِ النشيدِ
كانهمار الضوءِ من نجمٍ بعيدِ
كارتعاشِ الطيبِ في جامِ الورودِ
شنّفي -فيروزُ- أسماعَ الوجودِ
وانفَحي الأرواحَ بالشدوِ الغريدِ
أنتِ من لبنانَ قيثارُ الخلودِ".
