تخبرنا ولا ترينا: فتيات حزينات
مدفوعة بثلاث قصائد ترجمتها ستيفاني دآلال للشاعرة النيوزيلندية لانج ليف، عزمت على قراءة روايتها المترجمة حديثا للعربية «فتيات حزينات» التي ستأخذني فورا لذكرى ذلك الشتاء الذي قرأت فيه رواية «الصيف الجميل» لتشيرزي بافيزي، افتتاحية ثلاثية الصبا التي ينهيها برواية «بين نساء وحيدات» وهذا ليس التقاطع الوحيد بين ما كتبه بافيزي وكتبته ليف في روايتها هذه؛ لأنهما يعملان في المنطقة نفسها، على محاولة اجتثاث الحزن والوحدة لدى فتيات صغيران يبلغن صباهن بأحلام كبيرة ومعقدة.
لكن شتان بين المشرطين، فبافيزي الشاعر الإيطالي العظيم وعلى الرغم من أنه لا يحرك قصة الجزأين الأوليين من الثلاثية «الصيف الجميل» و«الشيطان فوق التلال» بأحداث تتجاور ما قد يحدث لصبية عاديين في مدينة إيطالية، فإن لانج تبدأ القصة بكذبة كان يفترض أن تكون بيضاء، من تلك الكذبات التي يتباهى بها المراهقون لأنهم يعرفون شيئا خاصا عن أحد ما، دون أن يكون ذلك حقيقيا بالفعل، إلا أن هذه الكذبة ستودي بحياة (آنا) التي سنظن أنها ماتت منتحرة. ثم تنفتح هذه القصة المبتورة وغير الناضجة بالإشارة لمرحلة تعيشها فتيات في منطقة أسترالية، مع مصادفات جمة، وخيوط سردية ساذجة، ومقاربات طفيفة لوجدان الشخصيات المختارة في هذه الحكاية. على عكس بافيزي، الذي يصوّر لنا قلق البلوغ، والارتباك البالغ للشباب وهم يقبلون على الحياة بحكاية متقشفة وكاشفة في الوقت نفسه.
لم تتجاوز ليف في روايتها هذا التقرير، وتقديم شخصيات سطحية، وخلافا لما يفعله كونديرا -الذي لم أعد أفضّله كما كنت أفعل في بدايات شبابي- فإن الشخصيات تظهر في هذه القصة لتدفع شخصيات بعينها نفهم أنها محور القصة «راد» و«أوردي» للتعبير عن نفسها، الكل ظلال هنا، ولا حاجة لنا لأن نفهم كيف لشخصيات كهذه أن تظهر هامشية وبعيدة رغم أنها طوال الوقت في قلب القصة وجوهرها، لا تجد لانج ليف نفسها مضطرة للإضاءة على كل الإعتام الذي تلقي به على من يحيط براد وأوردري وكأنهم ليسوا أناسا بقدر ما هم ذرائع لتمرير قصة هاتين الشخصيتين، وأنا أمقت هذا بصراحة، أمقته جدا، عموما من السهل بما كان اكتشاف السبب الذي يجعل هذه الرواية رائجة، إنها ببساطة تقدم لك جرعة من الخطاب العاطفي الرائج عن العلاقات اليوم، إنها بكل صفاقة تقول لنا في آخر جمل هذه الرواية: «إلى كل هؤلاء الفتيات اللاتي يقعن في علاقة حب غبية ويجدن أنفسهن في حالة فوضى، ويتساءلن عن تلك المشاعر وكل هذا الارتباك الذي يسري في أجسادهن كما الكهرباء.. إلى الفتيات اللاتي يشعرن باللهفة من أجل شخص معين، ويشعرن بأنهن على أتم الاستعداد للتضحية بحيواتهن من أجل أحبائهن. إلى من تكنّ مشاعر عميقة لشخص ما، ولا يهمها إن كان هذا الشخص سيدمر مستقبلها أم لا، إلى تلك التي تجعلها تلك المشاعر عمياء، لا تستطيع أن تميز بين الصواب والخطأ، إذا كنتِ تشعرين بكل ذلك مرحبا بك، دعيني أخبرك بأنكِ مثلي تماما هذا هو الحب يا عزيزتي، هذا هو، يدفعك إليه لا تدعيهم يخبرونك بشيء آخر.. لا تخبري نفسك بعكس ذلك».
أظن لو أنني قرأت هذا المقطع منفصلا لظننت أنه من خطبة عصماء تليق بـ TEDx مثلا أو قد تكون مقتبسة من كتاب تنمية ذاتية رخيص، لكن أن يكون هذا المقطع من رواية أدبية! لا في الخاتمة أو في الإهداء بل في متن هذه الرواية، فهو أمر يذكرني بصورة خاصة بما كتبه سي أس لويس في كتابه تجربة في النقد وإن كنت لا أتفق مع كل ما ذهب إليه، إلا أنه يقول «يخبرنا ترولوب في سيرته الذاتية كيف نمت رواياته من خلال بناء أحلام اليقظة التي كانت في الأصل من أكثر الأنواع أنانية وتعويضية بشكل صارخ». متحدثا عن القراء الذين لا يرغبون سوى بتحقيق هذا الهدف من وراء قراءتهم، حتى لو اضطروا لتحمّل الشرح الزائد والكليشيهات فإن المهم هو ذلك التعويض عبر حلم اليقظة الأنانية الذي يستحيل عليهم في حياتهم الواقعية ولنتأمل هذه الفقرة المهمة من الكتاب ص 66 «من الواضح لنا أن الكتب التي يحبونها مليئة بالاستحالات، ليس لديهم اعتراض على السيكولوجيا الفاحشة والصدف غير المعقولة. لكنهم يطالبون بصرامة بالتقيد بقوانين الطبيعة والقواعد العامة كما يعرفونها، بما فيها الملابس والأدوات والطعام والمنازل والمهن ونبرة العالم اليومي». وإن كان رأي لويس هذا حول عدم تقبُّل القراء للفنتازيا، فهو مهم هنا في سياق الإشارة لرواج أعمال لانج ليف مثلا، التي يكتب الناشر عنها في غلاف الرواية «اعتبره النقاد مرآة للجيل الجديد من الشباب والمراهقين والمنبوذين في هذا العالم، واعتبره ملايين القراء صرختهم التي لم ينصت إليها أحد».
وهكذا لم يبدُ لي أن كاتبة هذه الرواية هي الشاعرة نفسها التي قالت في قصيدتها: «حافة العالم»:
«تعتقد أن الوقوع في الحب يدور حول التمسك
لكنه ليس كذلك.
هو أيد متمسكة بحافة العالم
وتُفلت
إصبعا تلو الآخر.
خذ نفسا عميقا
هنا تأتي السقطة.
أعلم أنها المرة الأولى لك هنا،
لكنك قريبا ستعتاد الحركة
الهبوط المسرع في العمق
فقط ساير الأمر
فلن تتسنى لك إلا فرصة واحدة
لتقع في الحب
وقلبك لا يزال كاملا».
