تاريخ الأرجوحة

23 مايو 2023
23 مايو 2023

سبق وأن تساءلت في إصداري الأدبي الأول عندما شاهدتُ أرجوحة في منزل عائلتي لأول مرة بعد عودتي من الدراسة الجامعية في الخارج «كيف يلعب الأطفال خارج مخيلتهم؟». لطالما مثَّل حضور «الأرجوحة» بالنسبة لي مناخًا يدل على الرفاهية والتخفف. ثم أننا ومع مرور الوقت تعلمنا أن نتشارك بعض الأسرار أنا وصديقاتي بينما نقرر استخدام أرجوحة في متنزه داخل السيب أو على الشاطئ هناك أيضًا. نسمحُ لأنفسنا بعد موجة من الضحك بأن نتأرجح ببطء ناظرات إلى وجوه بعضنا، نتحدث عن أكثر أسرارنا حميمية فيما يشبه لحظة تجل داخل مهد ما.

انشغل الكاتب خافيير موسكوسو بتاريخ الأرجوحة وتحولات وظيفتها داخل سياقات اجتماعية مختلفة حول العالم. فقد بدأت بالانتشار في الملاعب الحضرية في القرن العشرين إلا أنها كانت أداة طقسية تستخدم للشفاء أو للعقاب أو للمرور بحالة من التغيير والتحول. استُخدمت الأرجوحة لتخفيف الرغبة في الانتحار، وعلاج الاضطرابات العقلية، كما استُخدمت أيضًا في عمليات تعذيب المتهمين بالسحر والتنجيم. لطالما كانت الأرجوحة فرصة سانحة للشعور بالتغيير والتحول المحيط بالذات، إذ الدفعات المتذبذبة، ذلك الرواح والمجيء يدفعان للتساؤل حول العالم الذي نعرف، بتسلسلاته الهرمية وإيقاعاته الراسخة. فالتأرجح، كما يعبّر موسكوسو، ليس مجرد لعب بل هو أكثر ذلك عبر إثارات طرق مربكة ومتوترة في مساحات جديدة. إن سرد تاريخ هذه الآلة يكشف لنا كيف أن «الارتباك» أصبح أداةً استُخدمت عبر الثقافة البشرية في سياقات عديدة.

بحسب بحث موسكوسو فإن التأرجح يظهر في مواقع أثرية عديدة، فهنالك مهرجانات خاصة بالتأرجح في اليونان القديمة بالإضافة لرسومات على كهوف غرب الهند تعود للقرن الخامس، كما توجد أعمال يدوية تعكس حالات التأرجح تعود لعهد أسرة سونج حوالي القرنين الحادي عشر والثاني عشر. لا يمكن تجاهل اللوحة البنجابية lady on a Swing in the Monsoon (1750-75) لامرأة تتأرجح بسعادة في الهواء بينما ترفرف ملابسها خلفها، والسحب الداكنة تنبثق في المسافة التي تبتعد عنها بأرجوحتها. وعند الفرس تجد الأرجوحة طريقها إلى القصص الأصلية لاحتفالات رأس السنة الفارسية بعيد النيروز.

يكتب مسكوسو عن تحيز ربط التأرجح بالأطفال وتجاربهم، أو الإشارة لعلاقته بالمرح فحسب، ذلك أنه ولآلاف السنين خدم التأرجح ممارسات تأديبية أو علاجية بعيدة تمامًا عن الطفولة. في اليونان القديمة تشير كلمة aiora إلى كل من الأرجوحة والمشنقة. وفي مرحلة من التاريخ اعتبر الأطباء أن التعرق أو التقيؤ المصاحب للتأرجح يمكن أن يكون علاجيًّا. إحدى الممارسات العقابية للأرجوحة كانت في أمريكا الشمالية وإنجلترا إبان القرن الخامس عشر تقريبا، إذ وضِع السحرة في أكياس قماشية معلقة في الأشجار، وتمت أرجحتهم ذهابا وإيابا. لم يكن إذن التأرجح تجربة إيجابية دومًا، لأنه قد يحمل تأثيرات لا نرغب بها، مثل الإحساس بالدوار أو الخوف من السقوط أثناء التأرجح إما بسبب الحبل المهدد بالتمزق أو لتخيلهم سقوطهم من عليها بينما يقذف بهم دون توقف.

في عشرينيات القرن التاسع عشر اكتشف عالم التشريح التشيكي يان ايفانجلستا بوركيني بأنه عانى مع ألم أذنه الداخلية بسبب من التأرجح الأمر الذي جعل الكشف عن متاهة عالم الأذن ممكنا. قام الطبيب بالفعل بإجراء تجربة تعتمد على التأرجح كما تلك الشائعة في أراجيح حدائق التشيك وألمانيا والنمسا، وبعد ساعة ونصف كان قد وصف بأن المعاناة التي ولدتها التجربة لم تكن محتملة.

لا بد من الإشارة أيضا إلى أن التأرجح لم يكن وبطبيعة الحال مصدرًا للعنف الجسدي فحسب، بل مثّل تمظهرًا للرعب. إذ تحتوي المدونة الروحانية على العديد من الإشارات للتأرجح والتقلبات أو حتى «البندولات». كان مبتكر شخصية شيرلوك هولمز قد أدرج الأرجوحة في كتابه تاريخ الروحانية 1925 كما تقدم صور الحقبة الفيكتورية فتيات يبدو أن الأرجوحة تسببت في موتهن. ثم سيظهر بعد ذلك مجاز «الأرجوحة المسكونة» التي تتحرك من تلقاء نفسها في أفلام رعب القرن العشرين.

استخدمت طقوس التأرجح على اختلافها، فأحد علماء الأنثربولوجيا يشير إلى ٢١ نموذجًا للتأرجح في مواقع عديدة من العالم من اليونان وحتى الصين، ولكن لم ظهرت في هذه المواقع على شساعتها؟ يمكن تفسير ذلك من خلال أسطورة الحب والموت، التي تبدأ دومًا بدافع لا يمكن كبته، بإنتاج قوة متجاوزة، تنتج في المحصلة ارتباكا عاطفيا وأخلاقيا. هذا الدافع يفهم من الناحية الجنسية مثل رغبة gopī عندما يسلمون أنفسهم للإله كريشنا.

سيستخدم فرويد أيضا في تحقيق تحليله النفسي المرتبط بالجنسانية كيف أن «التأرجح» أحد تمظهرات أشكال تحريض الجسم الذي ما أن يقمع أو يتم تصعيده حتى يتجلى على تصرفات البالغين ووجودهم سلوكات ودوافع مخصوصة.

في البحوث الحديثة حول التأرجح، يوصف الدوار الناتج عنه بأنه يحقق حالة من «الوعي الزائف» حيث ينظر للأرض على أنها هي من يتحرك. فيتأرجح الشخص ذهابا وإيابا ويبحث عن الظلال الملقاة على شبكية عينيه، ويؤمن في النهاية بأنه هو من يتحرك على خلاف المرض العقلي أو الطفولة، فإن الذين يتأرجحون يتعرضون لحالة من الارتباك الجسدي في البداية ولكنه قد يصبح عاطفيا أو سياسيا مع مرور الوقت. إذ إن هذه التجربة تُشعر الجسم بالتحرر من القواعد الاجتماعية المنظمة على مستوى العالم. هذا التحرر لم يتم إلا في طقوس الاحتفالات. وأولئك الذين تأرجحوا عبر التاريخ وكن نساء في الغالب، فعلوا ذلك لشغل منصب أو فرض شكل من الامتياز والهيمنة رمزيا وجسديا إذ ارتقوا عاليا فوق الآخرين.

إن الأرجوحة إذن مثل أشياء كثيرة أخرى عبر تاريخ البشرية مشحونة بالرمزية والخيال وتعتمد على الدوار والارتباك والكرب، عواطفنا التي لطالما عرفت طريقها نحو كل شيء.