بيتان وحمد واحد

01 فبراير 2022
01 فبراير 2022

كان يمكن أن يكون حمد بن يحيى لاعب كرة قدم شهيرًا. هكذا تظن الآن عندما تتذكر تلك المرحلة في أواخر الثمانينيات، عندما كان الفتى الموهوب يخترق صفوف الفريق الخصم في الملعب الترابي ليسجل أهدافه واحدا تلو الآخر في مرمى بلا شباك، تحدّه علبتا نيدو أو «طابوقتان» في أوثق الأحوال. أطلقت عليه اسم «حمدونا»، فَسَرى الاسم بين البقية وكأنما غدا اسمه، غير أنها لم تستطع أن تتبين لاحقا ما إذا كانت أطلقته عليه بمحض الصدفة الطفولية، أم أنها فعلت ذلك تيمّنا باسم اللاعب العالمي الشهير «مارادونا».

يسكن حمدونا البيت المجاور، ولكنه عمليا فرد من أفراد بيت هذه الطفلة كذلك، يدخل ويخرج كما يفعل أصحاب البيت تماما، يطرح الوسادة في منتصف الصالة ويشاهد ما يشاء من أفلام الفيديو، في زمن لم تكن قنوات الأقمار الصناعية قد عرفت طريقها إلى البيوت بعد. يطلب الوجبات التي يريد فتلبيها له نساء البيت بمحبة وطيب خاطر، ويرسلن في طلبه متى ما طبخن ما يعتقدن أنه يروق له، بل كثيرا ما يعزلن له نصيبه لو بدا أنه ليس في الجوار.

كانت هي تصغره بأحد عشر عاما، طفلة بين كتيبة كبيرة من الأطفال يتم التعامل معهم بجماعية ظالمة تغيّب خصوصية الطفل في زحمة المجموع. وحده حمدونا انتبه لطفولتها الذائبة في القطيع، وعاملها كشخص مختلف لم تكن تعرف أنها تنطوي عليه. ينتبه لزعلها فيسارع إلى إزالة أسبابه. يغضب لما يُبكيها فيرد لها حقها في الحال. بكت مرة على وشاح رأته في السوق وأبت أمها أن تشتريه لها، بحجة أن لا عدالة في شراء وشاح واحد في ظل وجود أربع فتيات صغيرات في العمر نفسه، لا تملك لهن ما يكفي من المال فتشتري به أربعة أوشحة دفعة واحدة. ففي مثل هذه الأحوال يتم تجاهل رغبة الطفل الواحد حتى لو لم يشاركه بقية الأطفال رغبته تلك. سأل حمدونا عمن أبكى الصغيرة، فأخبرتْه عن رغبتها في الوشاح. مسح دموعها بكلتا يديه طالبا منها التوقف عن البكاء، وواعدا إياها بأن يجلب لها في الغد أجمل منه.

لم يكن يعنيها أن يَصدُق في وعده، كان يكفيها أن أحدهم منحها انتباهه وسمع أمنيتها الصغيرة. ولكنه اتصل في الغد عبر هاتف البيت الأرضي، بينما كانت تتحلق مع باقي إخوتها الصغار حول صينية الغداء الكبيرة، وطلب محادثتها: «تعالي بيتنا تو عندي حالش هدية». غسلت يديها على عجل، وقد بدا أنها شبعت تماما، وركضت تحت شمس الظهيرة الحارقة إلى بيت الجيران لتجده في انتظارها أمام الباب الكبير، وبيده وشاح فضي مثلث الشكل تتدلى منه طراطيح فضية لامعة كثيرة. نظرت إلى ما في يديه وهي تقترب منه بسعادة. ألبسها الوشاح وعَقَد زاويتي المثلث أسفل ذقنها قبل أن يدفعها برفق لتعود إلى البيت. بكت الصغيرات عندما رأين الوشاح الجميل يزين رأسها بطراطيحه الفضية المتدلية، ولكنها لم تكترث، كما لم يكترث هو لاحقا بعتاب أمها على جعله بقية الصغيرات في البيت يبكين.

كثيرا ما يتبرع حمدونا بتدريسها جدول الضرب وبعض المسائل الحسابية، وإذا سئمت من الدروس يطلب منها الوقوف، ويسألها أن تصعد على قدميه مُقابلة له، فيمسك بكلتي يديها ويسير بها منقّلا خطواته على الساحة الإسمنتية أمام مدخل بيتهم، بينما قدماها الصغيرتان ثابتتان على ظهر قدميه الكبيرتين، فتكركر لفرط سعادتها باللعبة. تنتبه إلى أن حمدونا لا يفعل ذلك مع بقية الصغار، لا من إخوته ولا من إخوتها، فعرفت أنه امتيازها الخاص.

يعرف حمدونا أنها تتبعه أنّى ذهب، فهي تحب أن تكون في المكان الذي يكون فيه، فيعهد لها أدوارا تجعل لتبعيتها جدوى، كأن يعهد إليها الاحتفاظ بدشداشته وكمّته بينما يلعب كرة القدم في الساحة الترابية المشتركة خلف البيتين. يوظب لها طابوقة لتجلس عليها خارج حدود الملعب الوهمية، فتراقب لعبه داخل المستطيل مع إخوته وإخوتها الذين يشكلون مجتمعين فريقين خصمين. في إحدى المرات طاشت كرة أخيها عمر وارتطمت بوجهها، فسال الدم من أنفها غزيرا كما لم يكن من قبل. هرع إليها حمدونا ليمسح دماء أنفها بدشداشته المستكينة في حجرها، معلنا نهاية المباراة وموجها عباراته العنيفة لأخيها عمر الذي أصاب وجه مدللته.

لم يكن حمدونا فتى مشاكسا، ولكنه يأتي ببعض التصرفات التي توشك أن تودي بحياته، وأكثر تلك التصرفات رعبا كانت ولعه باللعب «بالسكتون». يلتقيان هو وعمر بعد ظهيرة كل يوم ليطلقا الرصاص على العصافير التي تسكن السدرة الكبيرة في فناء البيت، أو يحددان عمودا هدفا لضرباتهما المتناوبة. وفي أحد الأيام اتصل حمدونا بأخيها الأكبر ليقله إلى المستشفى على وجه السرعة راجيا منه عدم إخبار أحد. كان حمدونا يصيد العصافير قريبا من بيتهم عندما ارتطمت رصاصة بجذع السدرة وارتدت إلى وجهه لتستقر في خده الأيمن. نزف حمدونا كثيرا طوال الطريق إلى المستشفى، وبكت أمه عندما علمت بالحادث فيما بعد، فيما بقي سبب الإصابة مكتوما عن أبيه لمدة طويلة.

تتذكر أن حمدونا كان أول من أذّن في أذن أخيها صدام بعد ولادته. ذهب مع الجميع ليرى المولود الجديد، وتلقفه قبل الجميع وكأنما المولود الجديد يخصه هو أو يعنيه أكثر من غيره.

في عام 1991م بلغ حمدونا الثامنة عشرة من عمره، وأصبح شابا، ويوشك أن ينهي ثانويته العامة. جلس مقرفصا بجوار أمه عصر أحد الأيام في صالة بيتهم الكبيرة، بينما كانت مدللته غير بعيدة تشاهد مع باقي إخوته الصغار مسلسل الكرتون «الكابتن ماجد». سمعَتْه يهمس لأمه بينما يقلّب بين إصبعيه ميدالية على شكل قلب، كانت قد أهدته إياها عمتها كما أهدت جميع الشبّان في البيتين ميداليات بأسمائهم أحضرتها من الهند، أُلصقت في أحد وجهي الميدالية مرآة حمراء، وفي وجهها الآخر نُقشت أسماؤهم. قال للعمة يومها: «هذي أول ميدالية أحصل عليها وفيها اسمي».

همس لأمه يومذاك بينما الكابتن ماجد يركل الكرة باتجاه مرمى وليد: «ماه باغي أتزوج». توقعتْ الطفلة من أمه أن ترد كما ترد الأمهات في المسلسلات الكويتية: «هذي الساعة المباركة يا وليدي» تتبعها بزغرودة طويلة. ولكن أمه لم تفعل، وليست ممن يجيد إطلاق الزغاريد. قالت له عبارة لا تشبه عبارات الأمهات في المسلسلات: «لما تخلص دراستك وتشتغل».

وقت إضافي اقترحته أمُّه ضمنا يتيح للفتاة الصغيرة أن تهنأ فيه وحدها باهتمام حمدونا، قبل أن تأخذه منها عروسه المرتقبة، وربما أطفاله بعد حين. شهور أخرى ثم ظهرت نتيجة منتصف العام، وبسببها ذهب حمدونا برفقة صديقه غاضبا إلى الوزارة في مسقط لمراجعة نتيجة لا تعكس الجهد الذي بذلاه خلال الفصل الدراسي الأول.. ذهب حمدونا ولكنه لم يعد!

في صبيحة ذلك اليوم، كانت الطفلة تجلس تحت سدرة بيتهم الوارفة في انتظار الباص الذي سيُقلّها إلى المدرسة برفقة أخواتها وأخواته، ست فتيات صغيرات يتدرجن في صفوفهن الابتدائية، يلعبن ويمرحن بحبل الأرجوحة المربوط في أغصان السدرة القوية. الباص لم يصل بعد. تخرج عمتها فجأة من باب المجلس المقابل للسدرة وتستند باكية إلى جدار الشرفة الملاصقة لمدخل المجلس. سمعت الفتياتُ بين بكائها المخنوق عبارتها المشوشة: «حمد مات».

صرخت أخواته، وبكت أخواتها، وبين ذهول المشهد انفرطت منها ضحكة قوية سترافقها منذ تلك اللحظة عند كل مصيبة. انفلتت منها كتعبير غير قابل للسيطرة. أرادت سحبها إلى الداخل لتستبدل بها تعبيرا آخر أكثر ملاءمة للمصيبة، ولكن الضحك لم يكن يفسح مجالا لشيء عداه، أو يتيح لها فرصة التوقف على الأقل. رمقتها الفتيات الصغيرات بنظرات استغراب أكثر منها نظرات استنكار أو عتب. تعرِف الآن على الأقل أن حالة الضحك في غير أوانه بدأت معها منذ تلك الحادثة.

في ذلك النهار تعلّقتْ بالسور تنظر باتجاه بيت الجيران: خيام زرقاء نُصبت في الساحات. زرافات البشر يتوافدون. سيارة أبيها الحمراء تدخل الحوش في غير موعدها عائدا من العمل. رجال بدشاديشهم البيضاء. نساء بعباءاتهن السوداء. أطفال ذاهلون يتمسكون بأمهاتهم. كل الدنيا اجتمعت في بيت الجيران، ولكن حمدونا لم يعد! ذهب قبل أن تأخذه عروسه المرتقبة، وربما أطفاله بعد حين.

في ذلك اليوم، لم تكن الفتيات الصغيرات المنتظرات تحت السدرة بحاجة إلى من يقول لهن: «ما شي مدرسة اليوم». ولكن أحدا لم يخبرهن بماذا يجبن المعلمة عندما ستسألهن في اليوم التالي: «ليش غايبات أمس؟».

- «متوفي ود جيرانّا».

- «إلاّ ود جيرانكم! حسبت مايت عليكم حد من بيتكم».

في تلك الأثناء، تكورّت غصة كبيرة في حلقها أحرقت عينيها، وسدّت عليها منافذ الهواء، وشوّشت أمامها مرأى المعلمة، والسبورة، والطالبات، وجدران الصف. انفجرتْ أخيرا بالبكاء عزاءً تأخر يوما كاملا على حمدونا، الذي لم يكن سوى «ود جيرانهم» كما تقول المعلمة!

منى السليمي كاتبة عمانية