بحثا عن بذرة القصيدة

27 مارس 2024
27 مارس 2024

خلال حضوري الاحتفالية التي نظّمتها وزارة الثقافة والرياضة والشباب بمناسبة اليوم العالمي للشعر، سألني أحد الأصدقاء: لماذا يُحتفى في الشعر تحديدا دون سواه؟ خصوصا أن منزلة الشاعر تراجعت عمّا كانت عليه بالأزمنة الغابرة، ولم يعد لسان قومه، ولم تعد القبائل تتبادل التهاني «إذا نبغ فيها اسم شاعر، فتُقام الولائم، وتجتمع النساء كما في الأعراس» كما ذكر ابن رشيق القيرواني في كتابه (العمدة)، ولم يعد الشعر، بنظر صاحبي، مرآة المجتمع، فهو لا يتغنى بالأمجاد، والأنساب، وتقوقع الشاعر على ذاته، فصار شعره تعبيرا عن آلام فرديّة، ناتجة عن ذوات متورّمة، فلماذا نحتفي بالشعر؟ ولماذا هذا التقدير الاستثنائي له، منذ أقدم العصور إلى اليوم؟

هذه التساؤلات، وسواها تطرح باستمرار، وينسى من يطرحها أن منظّمة اليونسكو حين خصّصت يوما عالميّا للاحتفال بالشعر، لم يأت ذلك من فراغ، بل لأنها تعرف جيّدا أنّ الشعر فنٌّ لصيقٌ بروح الإنسان، وواقعه، وتطلعاته، وسيبقى يضيء أفق الإنسانية، ويعمّق إحساسنا بالوجود، ويضاعفه، ويجعلنا نفكر، ونسمو، ونتساءل، أما ما يتردّد عن تراجع مبيعات كتب الشعر في معارض الكتب ومنافذ البيع، ودخولنا (زمن الرواية)، فهو وضع عابر لا يعكس الصورة الحقيقيّة للشعر، الذي هو مثل طائر العنقاء كلّما ضاقت عليه دائرة الحياة، يحترق ليعود مجدّدا معافى يفرش جناحيه، ليحلّق عاليا، فاتحا الآفاق لمستقبل أبهى، وأجمل.

لقد جاء قرار منظّمة اليونسكو الصادر عام 1999م بتخصيص يوم عالمي للشعر، هو الحادي والعشرين من مارس من كل عام عن معرفة كاملة بالمكانة التي يحتلّها الشعر، وجاء اختيارها لهذا اليوم دقيقا، كونه يتوافق مع مجموعة أعياد ترتبط بالحضارات القديمة، وتاريخ الأديان، يقول د. خزعل الماجدي: «هذا اليوم هو عيد رأس السنة السومرية، وعيد الأكيتو البابلي والآشوري في التقويم البابلي القديم، وعيد نوروز الفارسي والكردي والتركماني وعيد سرصالي الإيزيدي وعيد البنجة المندائي ..وعيد الفصح المسيحي واليهودي»، فهل يحيلنا هذا التوافق إلى العلاقة القديمة التي تربط الشعر بالدين، وحتى بالطبيعة، التي ترتدي في الربيع ثوبا قشيبا؟ فالحادي والعشرون من مارس يحمل بشارة إعلان نهاية الشتاء وبداية الربيع، ففيه تتساوى ساعات النهار مع ساعات الليل وهو ما يُعرف بالانقلاب الربيعي، فيُحتفى بعيد الشجرة، وليست الأشجار وحدها تستيقظ من سباتها، بل تستيقظ جذوة التغيير في داخل روح الإنسان، فتزهر، بل وتثور، كما فعل (كاوا الحدّاد) في عيد نوروز الفارسي الذي يحيلنا إلى أسطورة آشوريّة تتحدث عن ملك ظالم يدعى «الضحاك» التفّ حول كتفيه ثعبانان كبيران حين يطلبان الطعام، يشعر بألم شديد، فيطعمهما، حتى يشبعا، وطعامهما هو مخّ الأطفال، وتقول الأسطورة إنّه كان يقتل كلّ يوم طفلين للحصول على مراده، فاحتال «كاوا الحداد» وقام بذبح خروف ليقدّم مخّه للحاكم بدلاً من مخّ الأطفال الأبرياء وكان يخبّئ الأطفال في مكان سرّي لا يعلمه إلّا هو إلى أن كبروا، فعلّمهم فنون القتال، وكوّن منهم جيشا، وثار على الملك الظالم، في هذا اليوم، فصار الناس يحتفلون به، ولعلّي وجدتُ في هذه الأسطورة جوابا على تساؤلات الشاعر يحيى الإلزامي في منشور له، وهي «ماذا باستطاعة الشعر أن «يفعل»؟ وأنًى له تضميد جراح الإنسانية النازف وترميم قيم العدل والحرية والجمال، وقد تهشمت إثر سقوطها المدوي أمام سمع الدنيا وبصرها ، تحت أحذية الجنرلات المتباهية بفجور القوة وغطرسة التفوق» فالشاعر هو (كاوا الحداد) المنقذ، الذي خرج على سطوة الظلم، وراهن على المستقبل، المتمثل بالأطفال، أما عن الذين يتحدّثون عن عزلة الشعر بسبب صعوبة الشعر وغموضه، فالشعر «طائر ريشه المجاز» وهو كما يقول هوميروس «رحلة صيد ليلية»، بل أن جماله يكمن في غموضه، فالشاعر الراحل عبدالرزاق عبد الواحد يرى أن جماليّته تكمن في ذلك :

وأجملُ الشعرِ ما أحسستَ أنَّ بِهِ

شيئًا يُضيءُ ولكن أنتَ جاهلُهُ

فالشعر الحقيقي حسب إليوت «هو الذي بوسعه أن يحقّق تواصلا مع القارئ قبل أن يفهمه»

والشعر الحقيقي صنيعة التجربة والحياة، فهو يحيط بنا من كل مكان، وهذا هو الذي جعل أحدهم يتنبّأ بأن سيأتي يوم يصبح فيه كلّ الناس شعراء، والأمر غير مستبعد، فإذا كان الفنّان الإيطالي (مايكل أنجلو) يرى أنّ كلّ صخرة نصادفها يمكن أن تحتوي على التمثال في داخلها، وما على الفنان إذا أراد الحصول عليه إلا أن يقوم بتقشير تلك الصّخرة «فلو قشّرنا صخور أيامنا سنجد بذرة القصيدة مختبئة»، يقول ريلكه «تسلّلْ إلى أعماقك وابحثْ عن الأسباب التي تمنعك من أن تصبح شاعرا».

والأمر ليس بالسهولة التي يتخيّلها البعض، فـ«الشعر صعب وطويل سلّمه» كما يقول الحطيئة فالكثيرون كتبوا الشعر، ولم يتمكنوا من مواصلة الطريق، لكنّهم، قطعا، لا يستغنون عنه، ويحتفلون بيومه، كما احتفلنا، في تلك الليلة الرمضانيّة الجميلة.