امتداد الخيط والجائحة

27 سبتمبر 2022
27 سبتمبر 2022

أتذكر تلك الليلة في أبريل عام 2020 عندما أخذتُ صديقتي المقيمة في ألمانيا لمطار مسقط الدولي، وكانت كل الأنوار مطفأة، بدا ذلك المشهد بالنسبة لي قاتمًا، وشعرتُ بأننا مقبلون على فترة صعبة ستصبح فيها كل الأشياء بعيدة عن متناول أيدينا. ثمة ضوء خافت يصدر عن إحدى البوابات الصغيرة ناحية صالة المغادرين، نظمت السفارة الألمانية آنذاك لرعاياها والمقيمين في المدن الألمانية هذه الرحلة الاستثنائية. لا يبدو أننا اليوم نعيش امتداد تلك اللحظة بشكل مباشر على الأقل، إذ عادت الحيوية لمرافق البلاد، عدنا لنطرد اليأس، هاربون نحو مستقبل بلا أوبئة في مخيلتنا، حيث سيكون كل شيء بخير بطريقة ما.

تستعرض اليزابيث كولبرت في متابعة صحفية لها، كيف غيرت الأوبئة في الجسم السياسي، كيف زحزحت الخرائط أيضًا، ومنها ما أشار له جوشوا لوميس في كتابه "الأوبئة: تأثير الجراثيم وقوتها الإنسانية" عن الفترة التي انتشر فيها الجدري بحلول القرن الخامس عشر، في جميع أوروبا وآسيا، الأمر الذي يعني أن معظم الناس ربما أصيبوا به في مرحلة ما من حياتهم، كان معدل الوفيات مرعبًا، وهو أعلى بكثير بين الأطفال إذ يصل لـ90% في بعض الأماكن فيكتب لوميس أستاذ علم الأحياء أن الوضع كان شديد الخطورة لدرجة أن "الآباء عادة ما ينتظرون تسمية أطفالهم بعد نجاتهم من الجدري". للوميس قراءة فوقية تدعي أن نجاة كثير من الأطفال في أوروبا تحديدًا، سمح بعد ذلك برحلات "استكشافية" لقارات أخرى واللقاء بالسكان الأصليين.

تأتي كلمة الحجر الصحي "quarantine" من الكلمة الإيطالية quaranta، التي تعني "الأربعين" كما يشرح فرانك إم سنودن في كتابه "الأوبئة والمجتمع: من الطاعون وحتى وقتنا الحاضر" إذ نشأت هذه الممارسة قبل وقت طويل من فهم الناس عما كانوا يحاولون احتواءه بالضبط، ولم يتم اختيار فترة الأربعين هذه لأسباب طبية. بل استمدت من العهدين الجديد والقديم، إذ تمت الإشارة للعدد 40 في سياق التطهير: الأربعون ليلة من الطوفان في سفر التكوين، وأربعون عامًا من ضياع اليهود في الصحراء، وأربعون يومًا من الصوم الكبير. وكانت أولى إجراءات الحجر الصحي الرسمية استجابة للطاعون، الذي قتل بين عامي 1347 و1351 ما يقرب من ثلث أوروبا فيما أصبح يُعرف باسم "جائحة الطاعون الثاني".

كل شيء مترابط على نحو تبدو فيه الحياة قصيرة بالفعل، كأنما ما حدث قبل قرون يتجلى الآن لا عبر الطريقة التي نستجيب فيها للأحداث فحسب، بل في صميمية سلوكنا ووعينا وحساسيتنا بما يحيط بنا. كأنما في فوضى هذه الحياة، خيط رتيب يمتد بلا انقطاع، ليصنع سردية واضحة ومرتبة عن وجودنا، ولا أقصد هذا على نحو موضوعي، بل شعرية العالم التي لا تلتزم بالقواعد وتتوحش كما لو أنها تريد دومًا أن تقول أنه ومن منظور الشعر يمكن أن نرى الحياة بطريقة مستقلة عن كل المقاييس الأخرى، إنها طريقة موازية تمامًا للعلم، ولا تأتي كتأثير منه.

إيان فرايزر في إحدى كتاباتها كانت تشعر بأن ما حدث في 2018 وانتشر عبر وسائل الإعلام العالمية، ومنها New York Post عن قصة عالم روسي طعن زميله في مركز أبحاث في أنتاركتيكا وذلك بسبب فضح الثاني لنهايات الكتب، الوسيلة الوحيدة التي كان يقضي بها وقته في تلك المحطة المعزولة التي يديرها معهد أبحاث القطب الشمالي وروسيا، كان يمهدُ لنا حضور الوباء، وانعزالنا في بيوتنا، وبحثنا الدؤوب عما يلهينا ونستطيع به تمضية وقتنا، لطالما أطلق على هذه الحالة "حمى المقصورة" وبالفعل تدفقت علينا قصص العنف داخل البيوت ضد النساء خصوصًا بسبب الجائحة. يظن الكثير من المحللين أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا يقف ورائها وعلى نحو ما العزلة التي تسببت بها الجائحة، إن هذا يجعل ما يحدث الآن مبررًا؛ لأنه يحدث الآن، رغم فوضوية العالم واحتكامه للصدفة والعفوية، ننحاز دومًا للقصة، للترتيب. وهو بالمناسبة سلوكنا الأزلي كما يظهر ذلك في قصيدة Snow-Bound: A Winter Idy للشاعر الأمريكي جون جرينليف ويتر التي نشرت عام 1866 وقدمت سلسلة من القصص التي روتها عائلة محتجزة وسط عاصفة ثلجية.

تصف فرايزر كيف أن ما يختلف بيننا وبين سكان ذلك الماضي الذي مرت عليهم كل تلك الأوبئة التي نتجاهلها لكي نستمر في العيش، هو أننا ملهيون بالإنترنت الذي يخترق كل مقصوراتنا المغلقة والمعزولة، ومع ذلك وفي الوقت الذي كانت تعيش فيه في شارع مزدحم في إحدى ضواحي نيوجيرسي وخلال أسوأ أيام كوفيد، كان الشارع فارغًا للغاية، والأجواء هادئة، حتى بدا الحي كما لو أنه بلدة أشباح، كان هنالك تذكيران بالطاعون، أولهما الأضواء الحمراء الوامضة لسيارات الإسعاف، وهي تسير بصمت في الشارع صعودًا وهبوطًا، وثانيهما الصوت الحاد للدراجات النارية المسرعة على الرصيف الخالي وعادة ما تكون في وقت متأخر من الليل.

ترى في أي زاوية نقع من هذا الخيط اليوم؟ ما الذي تغير في سلوكنا وحياتنا، هل نفكر بهذا أم أن الفكرة كلما هشت رأس أحد منا طردها بعنف، كي لا تعيد له كل ذلك الرعب من المجهول، أتذكر أنني قبل الجائحة لم أكن أحب القراءة في البيت، عادة ما أقضي الوقت في المقهى، احتجتُ لوقت طويل للغاية حتى بعد أن عادت المقاهي للعمل؛ لأن أعود لذلك الطقس الحميم، وربما لم أعد كما كنت في السابق، تغيرت كثير من عاداتنا في المناسبات، عدد المدعوين لحفلات الأفراح، والأنشطة التي صرنا نمارسها في البيت، أمي زرعت حديقة في بيتنا، تستطيع اليوم أن تستلقي تحت أشجارها دون أن تمَسكَ الشمس، ظلالها ممتدة، ظلالها الوارفة ستبقى شاهدًا على ذلك الوصل بين الماضي والحاضر، بين تلك القتامة المفجعة وهذا النور الذي نحاول طيلة الوقت الإمساك به.