الوحدة والسياسة

20 سبتمبر 2022
20 سبتمبر 2022

للفيلسوفة والمنظرة السياسية حنة أرندت، رأي حول الفرق بين العزلة والوحدة، إلا أنها تضيف لهما « الاختلاء»، يعنى هذا المفهوم الأخير، بالتواصل المباشر مع الذات على انفراد تام معها، وعندما لا تتحقق هذه الصحبة فإنها تؤدي إلى الوحدة، وفي جانب آخر فإن العزلة، هي "الحماية من حضور الآخرين" وذلك أثناء التعلم والقراءة أو مزاولة أي نشاط يتطلب تركيز الانتباه في العمل عليه في ظل آخرين. تنطلق أرندت في تأملها هذا الذي طرحته في كتابها "المسؤولية والاحتكام" من أفكار لحكيم روما القديمة السياسي ماركوس بورسيوس كاتو الذي قال: “لا أكون أكثر فعّالية إلا حين لا أفعل شيئًا، ولا أكون أقل انفرادا إلا حين أكون بمفردي”.

وعلى الرغم من رواج أطروحة أرندت هذه، حتى على صعيد عام بعيدًا عن الاشتباك مع تنظير أرندت حول العنف في الدولة التوليتارية وصوره، أو أطروحتها حول الثورة ودراستها لسؤال ما إذا كانت الفاقة هي الدافع الوحيد للثورة على السلطة في التاريخ، فإن كتابتها هذه معروفة على نطاق واسع، أنا نفسي سجلتُ هذه الكتابة لها وطرحتها عبر حسابي الشخصي في ساوند كلاود لتتجاوز عدد مرات الاستماع حاجز 15 ألف مستمع رغم عدم فاعلية حسابي. لكن سامنثا روز هيل وعبر مقالة مهمة لها بعنوان " التوليتارية متجذرة في الشعور بالوحدة"، درست بعدًا آخر في تنظير آرندت في هذه المسألة، معتبرة أن الوحدة تهيئ الرجال للهمينة التوليتارية خصوصًا بعد أن أصبحت الوحدة تجربة يومية.

وتقول روز هيل: إن الكتابة عن الوحدة عادة ما تأخذ شكلين اثنين، أولهما الكتابة المفرطة في التأمل أو رمسنة الوحدة، والثانية هي التدخلات الطبية للتعامل مع الوحدة على أنها شيء ينبغي علاجه. كلا المنهجين بالنسبة لها يتعامل ببساطة مع هذه المسألة المعقدة، ليترك القارئ في حيرة من أمره، ويعود ذلك بحسب تعبيرها إلى أن صعوبة التواصل مع الوحدة، فمجرد الحديث عنها نقوم بتحويل إحدى أكثر التجارب البشرية أهمية، إما لموضوع للتأمل أو موضوعاً للعقل. تفشل اللغة في فهم الوحدة، خصوصاً وأننا نختبر الوحدة رغم أننا وحيدون جميعاً بصورة مختلفة وفردانية. يمكن القول أن تفاعلنا مع الألم وشعورنا به واستجابتنا له تجربة شخصية وليست عمومية أبداً.

وبالنسبة لمقالة روز هيل فإن كلمة "الوحدة" جديدة نسبياً في اللغة الإنجليزية، وكانت إحدى استخداماتها الأولى في هاملت لشكسبير التي كتبت حوالي عام 1600. في كتاب آخر قرأته قبل نحو عامين ولم يترجم حتى الآن للعربية عنوانه " سيرة ذاتية للوحدة" لفاي باوند ألبرتي، ذكرت أنه لم يكن هناك إدراج” للوحدة "في النصوص المنشورة باللغة الإنجليزية قبل نهاية القرن الثامن عشر. في الواقع، إنها لا تكاد تذكر. ولكن منذ حوالي عام 1800، بدأ استخدام المصطلح بوتيرة متزايدة، وارتفع إلى ذروته في نهاية القرن العشرين "على سبيل المثال. يشير استخدام الوحدة في الكتاب المقدس إلى الفصل الجسدي للمسيح عن الآخرين، حيث "انسحب يسوع إلى أماكن منعزلة وصلى" (لوقا 5:16)، قاموس صموئيل جونسون للغة الإنجليزية (1755) وصف "الوحدة" من حيث حالة كونك وحيداً ("الثعلب الوحيد")، أو مكانًا مهجوراً (صخرة وحيدة)".

عودة لروز هيل فالكنيسة طوال القرن السادس عشر غالباً ما كانت تستخدم موضوع "الوحدة" لترهيب مرتادي الكنيسة من الخطايا. إذ يُطلب من الناس تخيل أنفسهم في أماكن منعزلة مثل الجحيم أو القبر، وفي عام 1964 أدرج عالم الطبيعة الإنجليزي جون ري كلمة الوحدة في قائمة الكلمات نادرة الاستخدام، وعرفها على أنها مصطلح يصف الأشخاص البعيدون عن جيرانهم.

مر مفهوم الوحدة بتحولات كبيرة من القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين خصوصاً مع الثورة الصناعية، واستمرت بالصعود حتى ترسخت في التسعينيات ثم أتت أرندت في منتصف القرن العشرين بحسب روز هيل لتتعامل بطريقة مختلفة مع هذا المصطلح، من خلال النظر في تجربتها للكتابة عن كارل ماركس في ذروة انتشار المكارثية، اختبرت حينها الشعور بالوحدة على نحو مختلف، وذلك في ارتباطها بالإيديولوجيا والإرهاب، إذ إن الشعور بالوحدة قد تغير في ظل الأنظمة التوليتارية. تكتب روزا هيل "وجدت التوليتارية في السلطة طريقة لبلورة تجربة الوحدة العرضية لكي تصير حالة دائمة من الوجود. من خلال استخدام العزلة والإرهاب، أوجدت الأنظمة الاستبدادية الظروف للوحدة، ثم ناشدت عزلة الناس بالدعاية الأيديولوجية.

خصوصًا وأن الأنظمة التوليتارية تستخدم العزلة؛ لحرمان الناس من الرفقة البشرية، إذ أن الشريط الحديدي للتوليتارية كما تسميه أرندت يدمر قدرة الإنسان على الحركة، والعمل، والتفكير، ويؤجج في عزلة كل فرد ضد الآخرين وضد نفسه، ويصبح العالم مكانًا بريًا لا خبرة فيه ولا يكون التفكير فيه ممكنًا. كما تستخدم هذه الأنظمة الأيديولوجيا؛ لعزل الأفراد، وتحقيق انفصالهم عن الآخرين، وبالتأكيد فإن الطريقة التي نرى بها العالم تؤثر على علاقاتنا بأنفسنا، وبهذا كله فإن هذه الأنظمة تحقق نوعًا من اعتماد الناس على أيديولوجية الحركة هذه في ظل عدم قدرتهم على الثقة بأنفسهم. والضربة القاضية بهذا الصدد هو تدمير علاقة الإنسان بنفسه مما يجعله عرضة للأيديولوجيا المهيمنة.