المكتبة بوصفها نصا «3-3»

06 يونيو 2022
06 يونيو 2022

سبق لجريدة الزمن أن أجرت استطلاعا بعنوان «مكتبة البيت .. أرواح وأصوات» شارك فيه عدد من الكتّاب العمانيين الذين تحدّثوا عن الجانب الحميم في البيت المتمثل في المكتبة، ونُشر على الأرجح في الرابع من مايو من عام 2016م. ولكن ما عاد ممكنا الوصول إلى تلك المادة أو غيرها من مواد الجريدة التي نُشرت على امتداد عمرها القصير، وما عاد لموادها المنشورة إلكترونيًا أثرٌ بعد إغلاقها كذلك. غير أني أتذكّر من بين المشاركين بالحديث عن مكتباتهم كان الكاتب أحمد الراشدي. الشخص الذي يودّ معظم من عرفوه أن يتعرفوا على مكتبته وكيف تكوّنت. لسوء الحظ لا يحتفظ أحمد بمشاركته في أي وعاء ورقي أو إلكتروني، فذهب حديثه الحميم أدراج الرياح! كما أني لا أتذكّر بقيّة المشاركين. ولكن لحسن الحظ أني احتفظت بمشاركتي في ذاك الاستطلاع في جهار الحاسوب نفسه الذي أكتب عليه الآن هذه السطور. وأود أن أستعيد ما كتبتُ، قبل ست سنوات، عن مكتبة البيت في هذه الحلقة الأخيرة من سلسلة «المكتبة بوصفها نصا»، حيث كتبتُ يومها:

«لا أذكر على وجه الدقة كم كان عمري يوم سقطت مكتبة أبي الخضراء أرضًا بما فيها من أثقال ناءت بحملها لسنوات. اختلط خشبها ونشارته بالأغلفة والأوراق، وساد الغرفة الملاصقة لمجلس الضيوف –حيث كانت– خراب هائل كان يستند بضخامته قبل ذلك الحدث إلى الجدار.

كانت تلك أول مرة أنتبه فيها إلى وجود مكتبة في البيت. جمعنا الكتب جماعيا –ولكن عشوائيا كذلك– صغارًا وكبارًا في محاولة للسيطرة على الدمار وتنظيفه، وصففنا الكتب على الأرض آخذين بقايا ما كان مكتبة إلى طريقها الطبيعي في انتظار عودة أبي من عمله لننظر ماذا يرى.

لم يهتم أبي بذكرى ما كان مكتبة بمجرد اطمئنانه على سلامة كتبه وقد رآها مرتبة في أكوام على الأرض، وأخال أنه لو رآها وهي جاثمة بين خشبها لحظة السقوط لهاله المنظر. أمَرنا ببساطة أن نزيح الكتب إلى الزوايا وتحت الأسرّة ريثما يبتني لها مكتبة جديدة أكثر صلابة وتحمّلًا.

في اليوم التالي كان النجّار يأخذ مقاسات الجدار الشرقي من مجلس الضيوف من أقصاه إلى أقصاه، وراح يبني مكتبة تسلقتْ رفوفها السقف وأخذت مساحتها الجدار كله. يومان والمكتبة جاهزة لاحتضان الكتب المنتظرة تحت الأسرّة، وراح أبي يفرزها بينما كانت أمي وعمتي تمرران عليها منديلًا مبللًا لإزاحة ما علق بها من غبار جراء وقعة المكتبة القديمة.

تسلقنا الرفوف الجديدة بإيعاز منه لصفّ الكتب التي أرادها أن تكون في الرفوف العلوية حسب الترتيب الذي أملاه علينا. يوم كامل وأصبحت المكتبة الجديدة شامخة في صدر مجلس الضيوف، كما لم تكن من قبل في البيت مكتبة. في البدء كان شكلها وحده ما يثير دهشتي، فقد كنت أدلف إلى المجلس وأبقى أتأملها رافعة رأسي الصغير إلى أقصى مداه؛ ليطال نظري تلك الكتب التي صارت بعيدة جدًا فوق رفوفها العلوية، ونزولًا إلى الرفوف السفلية التي حفلت بالكتب التي ظن أبي أنها تصلح لأطفاله.

مع الوقت صرت أطالع العناوين، وشدني بعضها الذي رحت أتصفحه في سن مبكرة. من هناك بدأت علاقتي بالقراءة. وإن كان تعلقي بالمكتبة بدأ مع تلك الحادثة التي ربما لولاها لما انتبهت إلى وجود تلك الكائنات في بيتنا، فإن صفة تسرّبت إليَّ من أبي ولازمتني حتى ساعتي هذه، فقد حدث مرة أن أعار أحدَهم موسوعة من خمسة مجلدات ولكنها لم تعد. حزن أبي لذلك، ولم يجد في نفسه جسارة ليطالب مستعيرها بإعادتها، فخرجت بأجزائها الخمسة ولم تعد.

ومرة أخرى أعار آخر ثلاثة مجلدات ذهبت هي الأخرى ولم تعد، وحاول مرارًا البحث عنها في معارض الكتب حتى عثر على نسخة أخيرة ومهترئة في معرض الكتاب 2008م.

ولمّا كان لا يحب رد طالب كتاب، في الوقت الذي يؤلمه ضياع كتبه، راح يسطّر بيتين وضعهما بداخل برواز، معلقًا إياهما في واجهة مكتبته:

يا مستعيرَ الكتبِ لستُ أعير كتبي

لأنهــــــــــــــا أحبتــــــــــــي وإنني حِبٌ أبــــــــــي

وبذلك جعل البيتين ينوبان عنه في الرد قبل أن يفصح طالب كتاب عن طلبه، مجنّبا نفسه حرج طلبات إعارة لا تفي بوعودها. وتاليا صار حزنه على ضياع كتبه يسكنني، فصرت لا أطيق إعارة كتاب أبدًا، وهو طبع ما زلت أكافح للتخفيف منه دون جدوى؛ فقد أيقنت أن الناس غالبا يعيدون الأمانات إلى أهلها إلا إذا تعلق الأمر بكتب يستعيرونها!

امتلأت مكتبة أبي وفاضت. وبعد وفاته عمدتُ إلى إغلاق شرفة تطل على الجانب الجنوبي الشرقي من البيت وتحويلها إلى مكتبة، فكبرت هذه أيضا وأصبحت أكبر من سابقتها، ثم بعدها بسنوات أخذت تضيق وما كان من بد غير التفكير في مكتبة ثالثة، ولكن في غرفتي هذه المرة، ولكنها سرعان ما امتلأت مفترشة الأرضيات مُراكمة الجديد كل مرة.

إلى هذا الحد ما عادت أمي تطيق مزيدا من الكتب خارج الرفوف، فقد كانت رؤيتها وهي تضيّق الواسع من الأمكنة يجعلني تحت طائلة عتبها المستمر؛ حتى صرت أهرّب الكتب من أبواب خلفية لأجنب أمي رؤية الجديد منها، ومجنّبة نفسي توبيخًا مستحقًا في آن.

الحديث عن ترتيب الكتب والمكتبات حديث البدايات، عندما يكون في الرفوف متسع والمكتبات جديدة لا تزال، ولكن عندما تضيق المساحات ولا تجد الكتب مستقرًا طبيعيًا تقيم فيه، فلا تحدثني عن ترتيب ولا تنظيم، فقط أن تَسلم من السخط والعتب والتهديد المستمر بنهاية تشبه نهاية الجاحظ، تلك هي القضية».

انتهى ما قلتُه في استطلاع جريدة الزمن، ولكن هل تنتهي رغبتنا في الحديث عن المكتبات؟ أود اليوم - وأنا أقرأ ما كتبت قبل سنوات، وأتأمل في الوقت ذاته ما طال مكتباتي من تغيّر - لو أعيد النظر في الأشياء، فأضيف تفصيلا هنا، وألغي آخر من هنا. ماذا لو عاد السؤال مجددا: ما الذي تعنيه لك مكتبة البيت؟ سأختار الحديث أكثر عن مكتبة أبي ومراحل تكوّنها حتى غادر الحياة.

مكتبة أبي .. كلاكيت ثاني مرة

لم يذكر أبي قط أنه فقد كتابا على الرغم من كثرة تنقلاته ما بين البريمي وصحار ومسقط ونزوى قبل أن يستقر في سمائل، مسقط رأسه، في منتصف عام 1985م. شيء واحد فقط بقي يتذكره بحسرة على الدوام، وهو فقدُه لقصائده التي كتبها في شبابه، ليس لأنها قصائد جيّدة بالضرورة، ولكن لأنها ارتبطت بحميمية البدايات ولذة الاكتشاف المبكر، فهو -كما كان يقول- كتب الشعر أول مرة عندما كان في الثانية عشرة من عمره.

لا أحد في العائلة يتذكر تاريخ تكوّن مكتبة البيت، ولا كيف راكم أبي محتوياتها كتابًا فوق آخر على الرغم من شحّ المكتبات في ذلك الزمان التي يمكن أن يكون اشترى الكتب منها، كما أنه ليس كثير السفر حتى نفهم أنه جلبها معه من سفراته خارج عُمان. كانت المكتبة موجودة منذ أبصرنا الحياة بلا تاريخ تكوّن تحفظه الذاكرة.

في سمائل تموضعت المكتبة أول مرة في صالة الطعام الملاصقة لمجلس الضيوف، على امتداد الجدار الشرقي منها. كانت مكتبة بتصميم جاهز تغطي بعض أرففها أبوابٌ زجاجية، وتتوسطها فتحة كبيرة لتلفاز لم يأخذ مكانه فيها قط، ولكن الفتحة سُدّت بالكتب وبعض صوره القديمة التي تعود إلى مطلع السبعينيات. وعلى الرغم من أنه لم يكن مألوفًا أن تكون في بيوت سمائل بمنتصف الثمانينيات صالة طعام، إلا أن الفضل يعود في ذلك إلى صديقه المهندس عبدالله الفارسي الذي صمّم له البيت، فأوجد فيه صالة للطعام تنفتح على مجلس الضيوف، ويفصلها عنه باب زجاجي عريض بظلفتين تنزلقان على بعضهما.

لا أحد باستطاعته التكهن لماذا كانت المكتبة في صالة الطعام تحديدًا! بطبيعة الحال ليس في الأمر مثالية تفترض موازنةً قصدها الرجل بين غذاء البطون وغذاء الذهون ضمن المكان الواحد؛ لأن أغلب الظن أنها كانت هناك لمجرد أنه وجد مساحة ملائمة لكيان كهذا لا أكثر ولا أقل. ولكن المكتبة في تلك الصالة كانت بأمان دائما، إذ ندر أن مستها يد غير يده، باستثناء الرف السفلي الذي امتلأ بأعداد هائلة من مجلة ماجد. ذلك كان حظنا منها فقط، أما ما علا ذلك الرف فقلما اعتنى به أحد سواه، حتى ضيوفه الذين دخلوا الصالة لعشاء أو غداء قلما التفتوا -كما يبدو- لطعام الذهون عندما كان يحضر طعام البطون.

ولكن ما حدث بعد سنوات غيّر مفهوم المكتبة في أذهاننا جميعًا، وفتح عيوننا عليها وكأننا انتبهنا إلى وجودها لأول مرة، في حادثة السقوط التي ذكرتها آنفا في استطلاع جريدة الزمن. كان سقوطا مدويا لم نعش مثله من قبل، ولم يكن انحناء الأرفف قبل تلك اللحظة وتقوّسها ينذر بشيء ذي بال، ولا تأرجحها بين فينة وأخرى كافيًا لإثارة قلق أحد، ولكنها فعلتها وسقطت. وعندما قرر أبي أن يبني واحدة جديدة قرر أن يغيّر مكانها من دون تبرير أيضًا، فاختار لها واجهة مجلس الضيوف على الامتداد نفسه الذي كانت تشغله في صالة الطعام. كنا نشهد تاريخًا جديدًا للمكتبة شاركنا فيه جميعًا. وكانت اللحظة الأكثر بهجة عندما اتخذ أبي من كتفيه سُلّمًا لأطفاله ليصفّوا الكتب حسب توجيهاته في الرفوف العلوية. اكتملت المكتبة الجديدة بمهابة تبعث في النفس شعورًا بالزهو بنحو غريب، فبالإضافة إلى حجمها الكبير -على الأقل كما كنا نراها في ذلك الوقت- أصبحت تحتل الواجهة، وتتصدر مجلس الضيوف. أصبحت أخيرًا شيئًا مرئيًا من عيون أخرى غير عيني أبي.

لا أريد أن أقول: إن أبي دفع ضريبة باهظة جراء قرار نقله المكتبة من مكانها في صالة الطعام إلى مجلس الضيوف، ولكنه فعل؛ لأنها أصبحت بمثابة كنز مفتوح على قارعة الطريق، يقف ضيوفه أمامها طويلا قبل أن يقتعدوا أماكنهم، يسحبون من الأرفف ما يشاؤون من العناوين ريثما تأتي الضيافة. ويحدث أن يقوم الواحد منهم مرات عدة لينظر في هذا العنوان أو ذاك قبل أن يعود إلى مكانه وبيده كتاب آخر غير الكتاب الذي وضعه قريبا منه، وما أكثر ما كان يدخل عليهم ليجدهم وقوفا أمام كتبه يتأملونها ويقلبون صفحاتها. أكثر ما كان يقلق أبي طلبات استعارة كتبه؛ لأنه يخجل أن يرد مستعيرًا -كما ذكرت قبل قليل في شهادتي لجريدة الزمن- فيعيره إياه بقلب مكلوم، وكما ذكرت أيضا فإنه يندر أن عادت كتب أعارها، ولكن كتابا واحدا دون سواه أثّر فيه غيابه أيّما تأثير، كان ذاك كتاب «معجم قبائل العرب» من خمسة مجلدات. استعاره منه أحدهم بمجلداته ولم يعد. زاره المستعير بعد ذلك مرات ولكنه زاره وحيدًا من دون المجلدات، وخجل أبي من سؤاله عنه. بعد بحث مضنٍ في معرض الكتاب في 2008 عثر على نسخة وحيدة ومهترئة فاشتراها بلا تردد. عاد إلى البيت عودة المنتصر في معركة البحث عن إبرة في كومة قش. في تلك اللحظة خطّ البيتين اللذين أوردتهما آنفًا، وفي الغد أخذ الورقة التي كتب عليها إلى «مكتبة بيت الجبل» بسمائل ليبروزها، ووضع البرواز في واجهة المكتبة لتعفيه حرج طالبي الاستعارة.

في وقت ما، أوجد لي أبي مساحة في الرفوف السفلية لأضع فيها اختياراتي من الكتب التي كنا نذهب لنشتريها معا من معرض الكتاب. رف لي وباقي الرفوف له. اتفاق شكلي، ولكن الاتفاق الضمني يقول: إن المكتبة كلها لي، والمكتبة كلها له ناقصة رف اختياراتي التي ما كانت تثير اهتمامه. ولكن هل أحببت مكتبة أبي حقا؟

لم أحب مكتبة أبي في البدء إلا بسبب شكلها وبالقدر الذي تحتاجه فروض المدرسة. أحببت القواميس والمعاجم بنحو خاص، فدائمًا كان «رائد الطلاب» منقذًا لنا في مراحل دراستنا الابتدائية، وتعارَفنا في البيت على تسميته «الكتاب بو فيه كرش» لصغر حجم صفحاته وضخامة عددها. وكان الكتاب الوحيد الذي يُسمح لنا باصطحابه إلى المدرسة بعد موافقة صعبة من أبي. أما بقية الكتب فكنت أراها لا تشبهني؛ كتب صعبة: جوهر النظام، بيان الشرع، فاكهة ابن السبيل، ابن الأثير، النحو الوافي، الكامل في اللغة والأدب، تيسير التفسير، مختصر كتاب العين، قناطر الخيرات، كتاب لباب الآثار، لسان العرب، القاموس المحيط، العقد الفريد، البخلاء، الأدب الصغير والأدب الكبير، إلى آخر تلك العناوين، فضلا عن الدواوين الشعرية الكثيرة بدءا من المعلقات، مرورًا بالمتنبي، وابن الفارض، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، والنبهاني، والستالي، وحتى النسخ الخمس والعشرين من ديوان وحي العبقرية للشيخ عبدالله الخليلي. ولكني لا أنسى كتابًا واحدًا اصطحبه معه دون سواه في سفره إلى الهند مرة، وإلى زنجبار مرة، ذاك كان ديوان ابن زريق البغدادي.

في مكتبة أبي، رف سفلي لكومة كبيرة من سجادات الصلاة، ونسخ عديدة من كتيبات «تلقين الصبيان»، ولكن كتابًا واحدًا فقط للأطفال دخل المكتبة ولم يتبعه آخر، كان قصة «الهر أبو الجزمة» التي جلبها عمي من البحرين في التسعينيات. ويملك أبي نسخة من كتاب الغزالي، وكنا نحذر الاقتراب منه بإيعاز من الكبار في البيت للأسباب التي صرنا نعرفها لاحقًا.