المكتبة بوصفها نصا (2-3)

23 مايو 2022
23 مايو 2022

يحب جامعو الكتب وأصحاب المكتبات الشخصية رؤية كتبهم وقد انتظمت في رفوفها، ولكن ثمة ما يبث راحة في نفوسهم لوجود الفراغات بينها، تلك الفراغات التي تعني أن الفرصة لا تزال قائمة لشراء كتب جديدة، فـ"لا شيء أكثر إثارة للفزع من منظر مكتبة مزدحمة تماما، مكتبة انتهت، وما عاد بالإمكان التفكير فيها: الكتب تخنق المكتبة على مهل" كما يقول محمد آيت حنّا. امتلاء المكتبة عن آخرها واحد من المهددات التي تهدد جامع الكتب، وتفسد عليه متعة شراء الجديد منها كل مرة، فهي لا تخلق تراكما جديدا على الأرضيّات وحسب، ولكنها تهدد وجوده في سكنه، وتنذر بتقليص مساحة حركته، ففي هذه الحال يصبح سؤال: "ما حاجتنا إلى مكتبات في عالم لن نجد فيه حتى أين نسكن؟" مشروعا.

ليس التخلص من الكتب بهدف توفير المساحات عملا هيّنا، فهو ليس شاقا على المستوى البدني والذهني وحسب، بحيث تقرر أيّها يمكن التخلي عنه وأيها جدير بالاحتفاظ به، ولكنه صعب من الناحية النفسية كذلك بالنسبة لأولئك الذين يرتبطون بعلاقة عاطفية مع الكتب التي تدخل مكتبتهم، فيصعب عليهم التخلي عنها. ولكن لا يبدو أن هناك مفرا من هذا التخلي ما بقيت المكتبة تتمدد بلا توقف، وما بقي الجديد من الكتب يصدر باستمرار. وما على جامع الكتب إلا أن يتحلّى بقدر كبير من التجرد للخروج من دائرة البلادة التي يصف بها محمد آيت حنا القارئ الذي يحتفظ بجميع كتبه إلى النهاية.

في ملتقى بيت الزبير الفلسفي الأول الذي عُقد في منتصف مايو 2022، أخبرني الفيلسوف اللبناني المقيم في أبوظبي رضوان السيد أنه تبرع بمكتبته التي قوامها 40 ألف كتاب لمكتبة جامعة محمد بن زايد التي يعمل فيها أستاذا للفلسفة. فعل ذلك بمنتهى السعادة، وأحسب أن لسعادته سببين، أما الأول فلأن الكتب لم يعد لها متّسع في بيته. وقياسًا إلى تنقلاته الكثيرة (سبق له أن قضى سنوات عديدة في عُمان) فلن يتمكّن من نقلها باستمرار، فضلا عن الظروف التي نعرفها جميعا في بلده لبنان. وبهذا أسدى جميلًا لجامعة عمل فيها سنوات طويلة، ولنا أن نتخيّل محتويات مكتبة كمكتبة رضوان السيد. والسبب الثاني هو أن الجهة التي استقبلت المكتبة ستأخذها، وقد هيّأت لها مكانا خاصا يحمل اسمه عرفانا بهديته القيّمة.

في هذه الأحوال، يصبح التخلص من المكتبة فعلا ممعنا في الاحتفاظ بها، وتكريسا للمكتبة التي تنتقل من ملكيّة صاحبها الخاصة إلى ملكيّته الرسمية، وتمنح الآخرين فرصة قراءة نصه الكامل حتى تاريخ انتقالها؛ لأن رضوان السيد أو غيره، لن يتورع عن بناء مكتبة أخرى في بيته مكان المكتبة التي تبرّع بها، ومن يدري لمن سيهديها بعد حين؟

ومرة بعد أخرى تمتلئ الأرفف عن آخرها، فيعمد أصحابها إلى أفكار تمنحهم مزيدًا من الفراغات حتى حين، أتذكر مثلا ما حكاه كولن ولسون في سيرته الذاتية "حلم غاية ما"، التي ترجمتها المترجمة العراقية لطفية الدليمي وصدرت عن دار المدى في عام 2016، أنه نصب رفوفا في كل جدران بيته، بما فيها جدران المطبخ، حتى أصبح بيته حقيقًا بأن يسمى (البيت المكتبة)، فهو كآخرين كثر في هذا العالم، يتمتع بشراهة هائلة في اقتناء الكتب الجديدة باستمرار. وألهمتني فكرته تقليدها في بدايات عام 2017، ولكني تراجعت ليقيني أن حتى هذه الطريقة ستفضي إلى تقلّص المساحات واختفاء الجدران مع مرور الوقت، فضلا عن أن في البيت شركاء لا تملك أن تقرر وحدك ملء جدرانه وفقا لهواك الخاص.

آخرون حوّلوا كتبهم المتراكمة إلى مكتبات عامة، فعلى المستوى المحلي نتذكر مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي في السيب، ومكتبة الشيخ العلامة حمد بن عبيد السليمي في سمائل، وآخرين. وفي السنوات الأخيرة، حّول الشاب العماني زكي الحجري مكتبته الشخصية، وقد تراكمت عناوينها، إلى مكتبة تجارية أطلق عليها اسمًا مميزًا (234)، رامزًا به إلى التاريخ الذي يوافق اليوم العالمي للكتاب في الثالث والعشرين من أبريل.

ليس امتلاء المكتبة مهدّدا وحيدا لجامعي الكتب، ولكنها الاستعارة التي لا تراعي آداب إعادة كتاب تمت استعارته. وفي عالمنا ما أكثر هذا النوع من المستعيرين، بل أصبح عدم إعادة الكتب المستعارة فعلا شرعيا بموجب العبارة الشهيرة: "أحمق من يعير كتابا، وأحمق منه من يعيد إليه كتابه". فتصبح قضية صاحب المكتبة: كيف أحمي كتبي من "أيدي المستعيرين"؟ ولا أقول "المستعيرون الذين لا يرجعون الكتب"؛ فقد بدا أن المستعير متّهم حتى يثبت العكس، وغالبا لا ينجو من القاعدة شواذ.

ذكرتُ في الجزء الأول من المقال أني أعرف أشخاصا كثيرين اختاروا لمكتباتهم الشخصيّة أكثر الأماكن خصوصيّة كغرفة النوم، وأني منهم. وفي مقال لسليمان المعمري في كتابه "نظري ضعيف.. وعندي نظارة" الصادر عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء ودار الآن ناشرون وموزعون في عام 2022، يتحدث عن مكتبتيه: مكتبة تضم كتبا يحبّها وأودعها داخل غرفة نومه، ومكتبة أخرى متنقلة/ صندوق السيارة. ويفرّق بين الكتب التي من حقها أن تشاركه غرفة نومه، والكتب التي يودعها صندوق سيارته.

في مكتبة غرفة النوم، وكما هو متوقع دائما، "امتلأت الأرفف فزحفت الكتب إلى الأرضية المجاورة لها، ثم أخذت تحبو كالجعلان إلى أن تسلقت السرير"، غير أنه لا يرى في الأمر سوءا، ما دامت تجنبه اقتحام الأصدقاء الذين لا يتورعون عن استعارة، وأحيانا سرقة، ما تطاله أيديهم، ولكن بوجودها في غرفة النوم، "من ذا يجرؤ على اقتحام غرفة نوم المرء إلا خاصة الخاصة".

أما مكتبته الثانية، وهي صندوق سيارته ومقاعدها الخلفية، فهي مكتبة الكتب الضرورية التي يحتاج إلى العودة إليها بين حين وآخر بحكم عمله في الإذاعة أو مقتضيات الفعاليات الثقافية. فهي أصدقاء أيضًا يرافقونه في مشاويره جيئةً وذهابًا، "ترى الدنيا وتتنفس هواء الحرية المنعش الذي لا بد أنها ستمنحه لك عند قراءتها للمرة الأولى أو الثانية أو العاشرة".

ومهما بالغ المرء في الحرص على مكتبته، فإنها تبقى معرضة للتلف سهوا أو بفعل فاعل، فسليمان المعمري مثلا احترقت كتبه التي أودعها صندوق السيارة حروقا من الدرجة الأولى بفعل التيزاب الذي تركه إلى جوارها غير محكم الإغلاق. وأعرف مكتبة أخرى احترقت بسبب اشتعال جمر البخور الذي وُضع (مجمره) في أحد رفوفها.

تقع هذه الحوادث الطارئة العرضية من غير قصد، ولكن أقسى تلك الحوادث في عُمان، عندما غرقت مكتبات بكاملها جراء الأعاصير المتعاقبة، ففي تحقيق بعنوان "ماذا قال قراءٌ رأوا كتبهم عائمة ومدفونة في الطين بعد هدوء العاصفة؟!" - أجرته بشاير حبراس لجريدة عمان ونُشر بتاريخ 19 أكتوبر 2021م، في أعقاب إعصار شاهين الذي ضرب محافظتي الباطنة شمالًا وجنوبًا في الثالث والرابع من أكتوبر من عام 2021 - يصف أصحاب بعض المكتبات الغارقة وجعهم وهم يرون كتبهم وقد اختلطت بالطين والطمي بعد انحسار العاصفة. يقول سالم الحوسني مثلا: "ليلة لن ينساها كل من عاشوها، لم أنقذ شيئًا، غرقت الكتب مُغرقة معها الأرواح التي تسكنها، والأيام التي قضيتها كاملة وأنا أهيم بين صفحاتها، ذهبت العناوين أدراج الغرق لا الرياح!". وتقول عبير الحوسني: "أتذكر بأن رواية الخلود التي كنت بصدد الانتهاء منها كانت فوق السرير، ولما بدأت الأمطار بالتساقط تذكرتها وعدت من منزل أختي القريب من منزلنا لكي أضعها في الخزانة؛ حتى تكون بأمان كما كنت أعتقد". بينما عائشة السعيدية تقول: "لم أشاهد ما حدث، ولكنني شعرت به مع ارتفاع منسوب الماء في كل أرجاء المنزل، فورًا خطرت الكتب والمكتبة على بالي، لكن كان من الصعب أن أصل إليها في لحظتها، بسبب الارتفاع السريع والمفاجئ في منسوب المياه، وحتى لو وصلت إليها، ما الذي يمكن فعله؟! لا شيء". هذا فضلا عن مكتبات أخرى رأينا أشلاءها صورا ملأت صفحات الفيسبوك لأشخاص نعرفهم وآخرين نتعرف على مكتباتهم التي فقدوها لأول مرة.

ولكن الألم لفقدان مكتبة قابلة للاستعادة أهون من ألم فقد مكتبة يصعب تعويضها، أتذكر الحريق الذي طال مكتبة الكاتب والصحفي المصري الشهير محمد حسنين هيكل في أغسطس من عام 2013. تلك المكتبة التي حوت ما يقارب 15 ألف كتاب حسبما تداولته الصحف وقتذاك، منها وثائق مهمة وكتب قيّمة يقدر سعر إحدى نسخها النادرة بمليون دولار. احترقت كلها باحتراق فيلا هيكل في الجيزة، والتهمت النيران كنزًا من النوادر والأسرار لا يُعوض. ولا أريد أن أتجاوز حريق مكتبة دار المتوسط في بغداد في يوليو من عام 2021، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى حلّتها الجديدة بهمّة الشباب المثقف الذي أبى أن تنتهي المكتبة باحتراقها، فأعادها سيرتها الأولى وأبهى. ولكن فلنتخيل حرائق المكتبات عبر التاريخ، وما أكثرها، لندرك حجم ما خسرناه ونخسره سهوا أو بفعل فاعل.

غير هذا وهذاك، هناك مخاطر الحروب، والغزو، والاجتياح. فقد شغلني لفترة طويلة مصير مكتبات أصدقائنا في اليمن وسوريا وليبيا والعراق وفلسطين والكويت أيام الغزو العراقي مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، أيّها ذهب في الحرب وأيها نجا؟ في مثل هذا المواقف قد يكون من المناسب أن تتخيّر مثالا واحدا وتحاول الاقتراب منه، لعلمك أنه سيكون مثالا ممثّلا لأوضاع عامة، فقررتُ أن أكتشف مكتبة الصديق الروائي الكويتي الراحل ناصر الظفيري، وذلك لسببن: أما الأول فلترحاله الدائم، وأما الثاني فلأنها مكتبة شهدت الغزو، فضلا عن السبب الثالث والأهم، وهو أنها نصٌ اكتمل بوفاة صاحبه، فوحدها النصوص المكتملة تملك إجابات كاملة، فأردت أعرف ما حصل لها خلال هذا وذاك، وما بعدهما، فكان أن تواصلت مع أخته الدكتورة بهيّة الظفيري، الحاصلة على الدكتوراه في البيولوجيا الجزيئية، شقيقة روحه والمقربة منه، فوافتني بالآتي:

"بالنسبة لمكتبة ناصر فقد تشكّلت منذ بدايات ناصر الأدبية، أي منذ عام ١٩٧٥ وكانت عبارة عن كتب وروايات مثل روايات أجاثا كريستي وكتب العقاد ونجيب محفوظ. في البدايات كانت مكتبته متواضعة يحتفظ بها في غرفته الخاصة بأرفف يصنعها بنفسه ويرتب فيها الكتب التي يقتنيها، ومع مرور السنوات أصبحت مكتبة ضخمة جدًا تحتوي على كتب وروايات من الأدب العربي والإنجليزي والروسي وأدباء المهجر. كان هذا في بيت العائلة قبل أن يتزوج وينتقل إلى سكنه الخاص، ولكنه مع ذلك كان حريصًا عليها كل الحرص.

أثناء الغزو العراقي بقيت مكتبة ناصر في بيت العائلة، لأنّ أحدا من أفرادها لم يخرج من الكويت، أما ناصر فقد ذهب إلى السعودية وعاد بعد التحرير، لذلك ولله الحمد لم تتعرض المكتبة للتخريب.

بعد زواجه بمدة انتقلت مكتبته إلى بيته، وهناك أفرد لها غرفة خاصة بها، وكانت بنظام الأرفف المرتفعة إلى السقف، واحتوت على أكثر من ٣٠٠٠ كتاب، وكان يقضي طوال وقته في مكتبته يقرأ أو يكتب.

بالإضافة إلى الكتب، كانت لديه آلات كاتبة قديمة استخدمها في طباعة مؤلفاته الأولى، ونسخ من صور ورسومات لبعض الرسامين المحليين والعالميين اشتراها أثناء وجوده في فرنسا.

كان يرتبها بطريقة خاصة لا يفهمها إلا هو، بحيث إنه يعرف مكان جميع الكتب بسهولة، ولا يسمح لأي شخص أن يغيّر الترتيب الذي وضعها عليه.

وعندما قرر الهجرة أخذ معه القليل من الكتب، بعض التي اعتقد أنها مهمّة له هناك، وانتقلت المكتبة بكاملها لمنزلي بهدف التخزين في البداية ريثما يعود، وقد احتفظت بها مخزّنة في صناديق بمنزلي لمدة طويلة. وعندما كان يزور الكويت كان يأخذ منها بعض الكتب ويضيف إليها الكتب التي يشتريها من المعارض مثل معرض الشارقة أو عمان أو البحرين أو الكويت أو لبنان أو تلك التي تصله من زملائه الأدباء في المعارض التي يحضرها. وفي كندا بدأ في تأسيس مكتبة جديدة من الكتب التي يأخذها معه في زياراته إلى الكويت أو التي تصله من الأصدقاء ودور النشر، وكانت تحتل نصف القبو في منزله مع مكتبه وأشيائه الخاصة، ويقضي فيها أغلب الوقت. وعندما كنت أزوره في منزله في كندا كان يجلس هناك بالساعات، وهي الفترة التي كتب فيها ثلاثية الجهراء. ولا تختلف مكتبته في كندا كثيرًا عن مكتبته في الكويت إلا في الحداثة؛ فالكتب التي لديه هناك أغلبها إصدارات حديثة، أما أغلب كتبه القيّمة فموجودة في بيتي مثل تاريخ الطبري، وابن الأثير، ومؤلفات أدباء المهجر، وروايات كثيرة، وكلّها طبعة أولى ترجع لعام ١٩٧٠ وقبل ذلك.

بعدما اتخذ قراره بعدم العودة إلى الكويت والاستقرار في كندا، طلب مني أن أرتّبها في أرفف وأخرجها من الصناديق. لم تندمج مكتبته مع مكتبه أخرى، فقد حاولتُ أن أخصص لها حيّزا في منزلي بجانب مكتبتي أنا، ولكني للأسف لم أحافظ على الترتيب نفسه الذي كان يعتمده، وهي موجودة الآن يطّلع عليها أفراد الأسرة عندما يحضرون إلى منزلي، ولا أسمح لأي شخص بأخذ كتاب منها".

انتهى كلام الدكتورة بهية الظفيري، وأرفقتْ بإجاباتها على أسئلتي – وقد صهرتُها في نص واحد كما تقدّم – صورا لمكتبة ناصر الظفيري في بيتها، ومقطع فيديو يبرز حجم الأرفف ومحتوياتها.