المكتبة بوصفها نصا 1-3

25 أبريل 2022
25 أبريل 2022

لكل مكتبة شفرة خاصة، تعكس مزاج صاحبها وذائقته في اختيار العناوين ورصفها. بهذا المعنى لا توجد مكتبة تطابق أخرى، حتى لكأن الأمر يشبه بصمة الإصبع التي لا يمكن أن تكون نفسها في أصبعين. هذه الفكرة عن المكتبات الشخصية خصوصا، وردت في مقال لمحمد السّاهل حمل عنوان «مكتبة الصاحب بن عبّاد» ضمّنه كتابه «حلم كونديرا» الصادر عن دار نثر العمانية في عام 2022. ذهب السّاهل إلى أن المكتبة وسيلة لقراءة الدواخل النفسية لصاحبها وشواغله الذهنية؛ فليست مكتبة شخصٍ مهتم بالآداب هي نفسها مكتبة عالمٍ في الفيزياء، وإن كان لا يعدم أن يكون عالم الفيزياء عاشقا للأدب، أو أن يكون الأديب مهتمًّا بعلم الفيزياء ونظرياته. غير أن المكتبة ليست بالعناوين التي تضمها وحسب، وإنما بآلية ترتيبها ورصفها على الأرفف كذلك، فهذه وحدها من شأنها أن تكشف الأغوار النفسية والأسباب الخاصة والموضوعية التي حدَتْ بجامع الكتب لجعل عناوين بعينها في الأرفف العلوية لا تطالها الأيدي، وأخرى في الأرفف السفلية تسهل على أيدي العابثين، وغيرها في مركز المكتبة/ في وسطها، يستطيع الإنسان واقفا التقاطها بيسر وكأنما هي مركز العناية ومدار الاهتمام. لهذه التوزيعات دلالات أيضا، قال الساهل إنها لا تخلو من عنصرية!

وإذا كان لنا أن نعدّ كل مكتبة شخصية نصا تلزم قراءته وتفكيكه، وصولا إلى ذهنية صاحبها وطريقته في التفكير وأسلوبه في الحياة، فهذا يعني أننا أمام نصوص بعدد المكتبات الشخصية في العالم وعلى امتداد الأزمنة منذ أول شخص أنشأ مكتبة شخصية. وكلها/ المكتبات نصوصٌ قلّما أولاها الأدب اعتناءه ومقاربته، بسبب صعوبة الوصول إليها لكثرتها وتعدد أزمنتها من جهة، ولخصوصيتها من جهة أخرى؛ فهي بعد كل شيء، مما يحسب ضمن الأملاك الخاصة التي لا يجوز اقتحامها إذا لم يُفسحها صاحبها للعامة. وكثير منها مجهول لا تعرف عنه حتى الدوائر المقربة من ملاّكها، لذا وجدنا عددا كبيرا منها ينكشف فجأة بعد وفاة أصحابها، وقد أصبح ميراثا يحار وارثوه غالبا ما يصنعون به!

في كتابه الممتع «مكتباتهم» الصادر عن دار توبقال المغربية في عام 2016 يضعنا محمد آيت حنّا أمام إحدى وثلاثين مكتبة حقيقية أو متخيّلة لإحدى وثلاثين شخصية عربية وأجنبية، مُعاصرة وتاريخية. وإذا أضفنا إليها مكتبته الشخصية التي ورثها من سلالة فلاحين من أسلافه كما يخبرنا في مقدمة كتابه فنكون أمام اثنتين وثلاثين مكتبة مختلفة ومتنوعة يقربنا حنّا من فكر أصحابها وشخصياتهم التي وسمت طريقتهم في التفكير، وأسلوبهم في الحياة؛ لأن المكتبة حسب وصفه «هي الانعكاس الخارجي لأذهاننا»، ولهذا فهي وسيلة لقراءة غير المكتوب من الأفكار، وعليه فإن «فك أسرار الجمع والتصنيف ورسم الطرق السرية للحدائق المتشعبة الداخلية للمكتبة، لن يقل فائدة عن فك مستغلقات فكر المؤلف».

إن كتابًا كهذا، هو أقرب إلى صورة المكتبة الشخصية بحد ذاته، مفهرس ومصنّف حسب رؤية صاحبه بلا ترتيب يبدو منطقيا للقارئ. وككل المكتبات فهو مشروع - في اعتقادي - غير نهائي وقابل للتمدد ليسعَ مكتبات لا نهائية تتجاوز العدد الذي ضمّه بين دفتيه، ومن يدري؟ لعله مشروع متسلسل قد يخرجه لنا محمد آيت حنا بعد حين، حالما تصبح لديه حصيلة إضافية من قراءاته لمكتبات الآخرين. أليست «كل مكتبة مفتوحة ومشرعة دائمة التبدل والتغير؟» بل وللإضافة أيضا كما تقتضي البداهة.

وككل المكتبات التي نقرأ فيها انعكاسا خارجيا لأذهان أصحابها، فإننا نقرأ في هذا الكتاب انعكاسا لذهن مؤلِفه محمد آيت حنا كذلك، ليس عبر مقدمته وهو يتحدث فيها عن مكتبته التي آلت إليه من أسلافه الفلاحين كما أشرنا وحسب، ولكن عبر اختياراته لمن يكتب عن مكتباتهم الحقيقية أو المتخيّلة، وعن تلك المكتبات التي رسم تصوراته عنها من خلال ما قرأه من مؤلفات لأصحابها. وهكذا، يصبح كل كتاب بالضرورة مكتبة لصاحبه، منه نقرأ تاريخ قراءاته وتعالقاتها مع ما سبقه من مؤلَّفات، فضلا عن الإحالات والهوامش التي يوردها الكتّاب - معظمهم - لمؤلفات الذين سبقوهم؛ ليضعونا أمام مقتنيات مكتباتهم الشخصية التي تكشفها لنا قوائم المراجع والمصادر كما يذكر حنّا أيضا، تلك القوائم التي أطلق عليها محمد الساهل في كتابه الذي أشرنا إليه سالفا «مكتبة في راحة اليد».

وأحسب أن كتابا مثل «مكتباتهم» يغري القراء والكتّاب على حد سواء للكتابة عن مكتباتٍ عرفوها وخبروها، زاروها أو تخيّلوها، لامسوا رفوفها أو افترضوها من خلال ما رشح من كتابات أصحابها. أليست المكتبات التي تجد من يكتب عنها مكتبات محظوظة، حالها حال الكتب المحظوظة التي تجد قارئا يبعث فيها الحياة، أو جامعا للكتب يضعها في موضع مثالي بمنتصف مكتبته، لا في رف علوي لا تطاله الأيدي، ولا في رف سفلي يعرّضها للعبث؟ ولكن ماذا عن آلاف المكتبات التي أغلق عليها أصحابها ولم تنكشف إلا على الدوائر الضيقة من أقاربه أو ضيوفه؟ ثم أليست المكتبات أماكن ومواضع؟ فليس كل صاحب مكتبة يختار الواجهة موضعا لمكتبته، بل ما أكثر من يفضّل أن تكون مكتبته في مكان خفي لا يظهر أمام الناس، وهذه وحدها حالة تغري بالدرس النفسي كما يقول صاحب كتاب «مكتباتهم»: «لا علم لي فيما إذا كان سبق لفرويد (أو أحد أتباعه) أن درس العلاقة بالمكتبة الشخصية، لكن مقاربتها من حيث الإظهار والإخفاء تبدو لي مدخلا ممكنا من المداخل التي كان بإمكان المحلل النفسي سلوكها»؛ لأن الأمر ليس خيارا شخصيا كما يرى، بل يعكس نمطا كاملا من العلاقات، ويكشف جانبا من شخصية صاحبها، وعن تصوره للقراءة والكتابة كفعل خاص وحميمي لا يجب أن يكون مشاعا لأنظار الضيوف والمتطفلين.

مؤخرا، عرفت أكثر من جامع كتب (وكاتبة السطور منهم) اختار أن يبتني مكتبته الشخصية في أكثر الأماكن خفاء وخصوصية، في غرفة النوم مثلا، ليضمن عدم انكشافها على أحد سواه إلا في الحدود الضيقة جدا التي تسمح للآخر بدخول المكان الخاص. ليس في الأمر رغبة في إخفاء ممتلكات خاصة بالضرورة، ولكنها رغبة في حماية تلك الممتلكات من أيدي المستعيرين والمتطفلين. مكتبة القارئ الواحد هي المكتبة التي لا تظهر للعيان مع يقينك بأنها موجودة في مكان ما، وعدم ظهورها أدعى للفضول أكثر. أذكر فضولا راودني عندما أخبرني الناقد المغربي المهم عبدالرحيم جيران أنه خصص الطابق الثالث من بيته لمكتبته الشخصية، سرعان ما ارتسمت لها في ذهني صورة قصيّة وعَليّة ومتنائية لا يمكن الوصول إليها، إن لم يكن بسبب بُعدها الفيزيائي فبسبب الذوق الذي يمنعك من التطفل لتجاوز الأماكن المخصصة لك في غرفة الضيوف. لاحقا تمكنت من رؤيتها في لقاء متلفز أجري له من داخل مكتبته في الدور الثالث. كانت كبيرة حقا، وكأنه يقف أمام رفوف مكتبة عامة، فأيقنت أن المكتبات لا تليق بها إلا الأدوار العلوية. عززت هذا اليقين عندي تجاربنا في عُمان مع الأعاصير المتوالية التي تجتاح مياهها الأدوار السفلية من المباني القريبة من البحر ومجاري الأودية، فلا ينجو من الغرق إلا ما علا وارتقى عن الأرض.

على عكس الإخفاء، يشكل الإظهار حالة نفسية أخرى على النقيض من سابقتها، ففي هذه الحال قد يكون التباهي سببا في اختيار أكثر الأماكن بروزا في البيت ليضع فيها المرء مكتبته، أو لعلها الرغبة في مشاركتها مع الناس والضيوف، فمثل هذا النوع من جامعي الكتب لا يتهيبون من فقدان كتبهم وعدم إعادتها بعد الإعارة. هناك مقال آخر لم ينشره محمد الساهل بعد أطلق عليه عنوان «امتداح اللامكتبة»، يذهب فيه أبعد من ذلك، إذ يعتقد أن المكتبة اليوم – من خلال حمى الإظهار - ليست أكثر من مجرد خلفية يستعان بها في التقاط الصور وحسب، لتضفي على حضور صاحبها وهو جالس أمامها في برامج التواصل المرئي، التي شاعت خلال جائحة كورونا، ديكورا لافتا. بدا الساهل متشائما في مقاله هذا إزاء دور المكتبة اليوم حد امتداحه حالة اللامكتبة، أو أن تلزم المكتبة حالة واحدة: الإخفاء!

إن أي قراءة للمكتبة بوصفها نصا، لا تستثني الفراغات التي يتركها صاحبها بين الكتب، ولا تلك الأشياء التي يكمّل بها مشهدية المكتبة: تحفا، أو مجسمات، أو متعلقات شخصية لا صلة لها بالكتب المصفوفة في الأرفف: مفك براغ، مقص أظافر، سجادة صلاة، مشط، خصلة شعر، وغيرها. إنها حالة متفردة وصورة عميقة لعلاقة المرء بمكتبته، حتى تراكُم الأغبرة في الأرفف المهملة بوسعها أن تقول الكثير، الذبابة الميتة في رف علوي تشي بالمدة الزمنية منذ مرت عليه يدٌ آخر مرة، لعبة طفل تركها في رف سفلي تحكي درجة فضول جيل قادم نحو الكتب والمكتبات. كلها إشارات تمنح المكتبة الشخصية هويتها الخاصة.

يشغلني كثيرا السؤال عن مصير المكتبات بعد وفاة أصحابها، ليس عن المصير الذي ستؤول إليه كتبها فقط، ولكن عن مصيرها كنص اكتمل ولن يجد من يقرأ الانعكاس الخارجي لذهن صاحبه. هناك عبارة مؤثرة لفالتر بنيامين يوردها محمد آيت حنا تقول: «إن معنى المكتبة كما وجودها لا ينكشفان إلا في مصيرها بعد وفاة صاحبها، فيما ستؤول إليه بعد وفاته. حين يصير بوسع الآخرين أن ينظروا إليها من الخارج وأن يحاكموها كفعل انتهى وكأمر قُضي». عبارة كهذه أعادت إلى ذهني صورا لمكتبة الممثل المصري حسن كامي الذي رحل عن دنيانا في الرابع عشر من ديسمبر من عام 2018، مخلّفا - إلى جانب أعماله الفنية الكثيرة من أفلام ومسلسلات ومسرحيات - مكتبة هائلة وُصفت بأنها من أكبر المكتبات الشخصية اليوم بحصيلة تتجاوز 22 ألف كتاب، بينها مخطوطات وكتب ووثائق نادرة يعود بعضها إلى مئات السنين. في مثال كهذا يصعب إيجاد إجابة عن بداية تشكّل المكتبة، عن النسخ الأولى التي شكلت نواة مكتبة كامي قبل أن تراكم كنوزها عبر السنين، ولكن الإجابة عن اكتمالها/ نهايتها قد حدث بموت صاحبها، عندما أصبح الحديث عن مصيرها ضرورة، ودخلت الاحتمالات كلها حيز التنفيذ، والتفريق، والخلاف: من أحق بها من سواه!

وإذا كنا نقول إن المكتبات المحظوظة هي المكتبات التي تجد من يكتب عنها، فإن المكتبات الأكثر حظا هي التي لا يتنازع عليها ورثة تؤول بينهم مِزقا، فلا تعود ذاك النص الواحد الذي اكتمل للتو بالوفاة، فيفقد القارئ فرصته الأخيرة في قراءة الانعكاس الخارجي لذهن صاحبها. وحتى في الحالات التي تؤول فيها مكتبة بكاملها لشخص واحد أو مؤسسة بعينها، فلا يتعين فرزها وإعادة تصنيفها لتذوب بين أرفف المكان الجديد وعناوينه حسب فهرسة المكتبة المستقبِلة، فذلك يقضي على أصل المكتبة ويحيلها إلى أشلاء يتعذر جمعها أو التعرف عليها. إنها في هذه الحال ليست أكثر من توسعة لصالح المكتبة المستقبِلة تحت شعار زائف: «الحفاظ على إرث المتوفى»!. «المكتبة داخل المكتبة» هو الوضع المثالي لمكتبة آلت لغير صاحبها بعد وفاته، كيان محدد قابل للتمييز بالكيفية التي كانت عليها كآخر النصوص غير المكتوبة لانعكاس ذهنه الداخلي.

منى السليمية كاتبة وباحثة عمانية